وصلتني يوم الأربعاء رسالة SMS حملت إلي نبأ وفاء شيخنا الجليل الرائد عبدالله بن خميس -رحمه الله- وأنا في عاصفة الحزن، أرسلتها -حالاً- إلى أستاذي الدكتور عبد الرحمن الشبيلي الذي تربطه بالراحل علاقة حميمية مميزة، فجاءني صوته يخالطه حزن، يخبرني بالمكان الصحيح للصلاة على الفقيد:فتذكرت هذا البيت : ألفتها أرض الجزيرة أحقابا ومن البؤس والأذى ما يطول هذه هي الجزيرة التي أحبها الفقيد الكبير عبد الله بن خميس وأوقف حياته البحثية عليها، وسبر أغوارها ووصف جبالها ووهادها عبر نتاجه العلمي الضخم. بل بلغ به عشقه لجزيرة العرب أن وصفها بقوله: ولها في فم الزمان دوي متلئب تحار فيه العقول هكذا هي «لجزيرة العربية» في عيون فقيدنا الرائد ابن خميس «دوي» لا يعلوه شيء، وقد كتبها نثرا في مؤلفاته «من وحي الجزيرة» و» المجاز بين اليمامة والحجاز» و»معجم اليمامة» و»الدرعية» و»تاريخ اليمامة « و»جبال الجزيرة» ولا شك في ريادته ومكانته الكبيرة في حياتنا الأدبية ولن أتحدث عن ملامح الريادة في حياته -رحمه الله- فهناك من هو أقدر مني وأولى بتعدادها، ولكنني سأتحدث عن «جوانب» عايشتها ووقفت عليها بنفسي عندما عرفت و»تعرفت» على هذا الرائد الكبير من خلال مجلسه المفتوح بمنزله بالرياض حيث اعتاد أن يجلس عصر كل يوم في «دكته» المعروفة والمألوفة لدى أصدقائه ومحبيه وتلاميذه من محبي الأدب والتأريخ والشعر، خاصة في السنوات الأخيرة، وسأقتنص للقارئ بعض «اللقطات» التي اختزنتها الذاكرة وسجلها القلم توثيقا لحياة الرواد في مشهدنا الثقافي ليبقوا رموزا وطنية في ذاكرة أجيالنا القادمة: وإن قلت أين الطيب الذكر «مشرف» يناديك مد الطرف فأنا «مشرف» على ربوة بالمنحنى مشرئبة تصافح أمواج النسيم وتغرف وجدت نفسي قبل ثلاثة عشر عاما تترنم بهذين البيتين وأنا أدلف إلى قصره «مشرف» وهو -بلا شك- جزء عزيز على نفس فقيدنا الراحل ابن خميس -رحمه الله- حيث ابتناه لنفسه ومحبيه بمزرعته «عمورية» في ضاحية العمارية قريبا من «الرياض» وقد خلده بقصيدة عصماء، ويخصه بيوم «الجمعة» كاملا من كل أسبوع، فلما جئته ذات صباح، وجدته -رحمه الله- جالساً وليس معه إلا صمته عنوان حكمته وعلامة وقاره. - رفيقه الدائم وجليسه الأثير إلى نفسه هو «صمته» فكم مرة دخلت عليه -رحمه الله- ووجدته صامتا، وعندما أحاول عبور هذا «الصمت» إلى علمه الفسيح يقول لي: قال لي الأطباء ما يشفيك قلت: دخان «رمث» من التسرير يشفيني، ابن خميس -رحمه الله- يتألم ويشكو على غير عادته ويحتاج إلى علاج شاف، فيحتار الأطباء، فيسألونه ما يشفيك؟ فيبادرهم قائلاً: «دخان رمث من التسرير يشفيني» ومن لا يعرف «الرمث» فهو نبات صحراوي ينبت في صحراء «الجزيرة العربية» يعرفه المولعون بحياة الصحراء ومسامراتها، ليس «الرمث» فقط يشفي المرحوم بل «دخانه» عندما يحترق ويتحول إلى «نار» في «جوف الصحراء يتدفأ بها البدوي ويتسامر مع أبناء القبيلة. إن هذا الطقس الصحراوي يعطي صورة صادقة عن الفقيد الكبير الذي عشق الجزيرة العربية ورمثها حتى أصبح «دخانه» علاجاً للواعجه، وهيامه بها وبجبالها ووهادها. - ما من أحد يعرف الفقيد ابن خميس إلا ويعشق سماع شعره ويعجبه إلقاؤه المتميز الذي أسر تلميذه الكبير الشيخ أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري عندما كتب يوماً ما: «وأكبر برهان على محبتي للشيخ ابن خميس وإعجابي به أنني أقوم على المنبر محاضراً أو مرتلاً شعراً أو مهاتفا من المذياع يخالني الناس ابن خميس.. وأنه تطبع عجزت أن أحيد عنه، وأنا شخصيا لا أمل من سماعه -رحمه الله- وهو يتحدث شعرا عن «طويق»: ألهمتني يا طويق كل شاردة تضيق بها ترانيمي وأشعاري وكنت أبعث ألحاني مولهة واليوم حطمت -إلا فيك- قيثاري واخترت في حضنك الممراع وادعة في ربوة ذات أسرار وآثار عندما أسمع تلك «الأبيات» عن «طويق» الجبل وأنا في حضرة «طويق» الرائد، عندما أسمعها بصوته الجهوري أشعر كأنني في رحلة سياحية مصورة إلى هذا «الجبل» الشامخ في وسط «نجد» قلب الجزيرة العربية، فيتأكد لي عشق الفقيد ابن خميس لهذه «الجزيرة» التي أصبحت مصدر إلهام واعتزاز له في حياته. - بعض الحاضرين لمجلس عندما يرونه صامتا كعادته، يبادرونه سائلين، ما جديدك شعراً؟ فيصمت للحظات ثم ينشد بصوت يزينه سحر «الصحراء»، إنه صوت قادم من سفوح «طويق». قالوا هجرت الشعر قلت ضرورة باب الدواعي والبواعث مغلق خلت الديار فلا كريم يرتجى منه السؤال ولا مليح يعشق هكذا هجر الفقيد الراحل عبد الله بن خميس الشعر في أواخر حياته، وفضل الصمت على قول الشعر عندما امتلأت ساحتنا الشعرية بأنصاف الشعراء وأرباع المتشاعرين، لكنه -رحمه الله-، عندما احتفل «الوطن» بمناسبة مرور عشرين عاما على تولي خادم الحرمين الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله- قال في رائعته «عصارة الدهر»: حلها طلقة المحيا رحيبة ليست حلة الجمال قشيبة وازدهرت في جلالها وتبدت حلوة سبطة القوام رتيبة زانها الوشي والملاحة والدل وأربت فيها الفنون العجيبة إن هذه «الحبيبة» هي «الرياض» قلب «الجزيرة» النابض. - تلك « الجزيرة « التي عشقها شاعرنا الفقيد واختار اسمها عنوانا للصحيفة التي أسسها في المملكة « صحيفة «الجزيرة»، والتي كانت وفية معه وبه طوال حياته، فكم أصدرت من ملاحق صحفية عن مناسبات كان الفقيد فارسها ومهندسها؟، ومن أبرز ما فعلته هذه الصحيفة العزيزة إصدارها الثقافي الكبير «عبد الله بن خميس قراءات ومشاهدات» ويكفي ما كتبه أستاذنا خالد المالك رئيس التحرير عندما عنون لمقالته الرثائية للفقيد: «مؤسس الجزيرة علم ومعلم» وفاء وتقديراً للارتباط الروحي بين «الجزيرة» الصحيفة والرائد الفقيد ابن خميس. - وهنا لابد من مسح شامل لكل الأفكار والرؤى التكريمية التي طرحها ومازال يطرحها الكثيرون من محبي الراحل الكبير ابن خميس، فهي كثيرة جداً وواسعة كسعة عالم الفقيد ابن خميس، وهي متنوعة -أيضا- كتنوع عطائه الفكري الذي خلفه للأجيال، والمشهد الثقافي ينتظر هذه الأيام مبادرات الجامعات المحلية وعطاء القطاع الخاص لدعم المشاريع المقترحة لتخليد ذكر هذا الرائد الكبير، ولعل من أبرزها وأهمها -في نظري- هو تأسيس مركز ثقافي يحمل اسمه- رحمه الله-، ليكن هذا المركز امتدادا طبيعيا لعطائه الفكري لتأريخنا الوطني وجغرافية بلادنا، وليصبح هذا المركز -بحول الله- مصدر إشعاع لأجيالنا القادمة ليرتبطوا بهذه الأرض وبقيادتها الرشيدة. أخيراً تعلمنا من «الجزيرة» الصحيفة والقيادة كيف يكون الوفاء لرجالات الوطن بتكريمهم أحياء وأمواتا، بتخليدهم في عالم الحرف والكلمة، ليتحولوا إلى «منجز» في ذاكرة الوطن، فهل تبادر مؤسسة الجزيرة الصحفية بتأسيس هذا المركز الثقافي أو غيره؟ تخليدا لاسم الرائد عبدالله بن خميس ليبقى في ذاكرة الوطن نبراسا يهدي ويهتدى به، من أجل وطن يفخر ويفتخر بأبنائه الكبار سيرة ومسيرة.