كانت طفولتي المبكرة في عالية نجد، وفي قرية تسمى «مصدة»، وكانت إحدى عاداتنا الاجتماعية حينذاك الخروج للبر والهضاب والأودية المعروفة حولنا في المناسبات الاجتماعية والولائم الخاصة، حيث تجتمع الأسر والعوائل رجالا ونساء. من خلال هذه المناسبات ومن خلال بعض الجولات الخاصة عرفت من الهضاب «جبلة» و«البيضتين» و«خزاز» وغيرها، كما عرفت من الأودية «وادي الرشا» و«وادي التسرير» و«وادي أبو عشر» وغيرها من الأودية. عندما كبرت شيئا ما، وجد لي ولع بالقراءة، وقرأت الكتب التي تؤرخ لمرحلة الجاهلية أو مراحل انتشار الإسلام الأولى، صرت أجد الكثير من هذه الأماكن مسطورة في التاريخ بأسمائها التي رسخت في ذهني صغيرا. فجبلة كان فيها أحد أهم أيام العرب في الجاهلية التي تذكرني كتب معاجم البلدان حين تصفها بتفاصيل أعرفها جيدا، ومنها قول الشاعر العامري: لم أر يوما مثل يوم جبله لما أتتنا أسد وحنظله وغطفان والملوك أزفله نضربهم بقضب منتحله و«البيضتين» يذكرها الفرزدق في شعره قائلا: أعيذكما الله الذي أنتما له ألم تسمعا بالبيضتين المناديا وخزاز أقرأ فيه قول عمرو بن كلثوم: ونحن غداة أوقد في خزازى رفدنا فوق رفد الرافدينا أما الأودية فوادي التسرير فيه البيت المشهور: قال الأطباء ما يشفيك قلت لهم دخان رمث من التسرير يشفيني تم ربط هذه الأماكن بتاريخها، وبشكلٍ علمي وموسوعي عبر المشروع الجغرافي والتاريخي الذي غطى أغلب مناطق السعودية، وقاده علامة الجزيرة حمد الجاسر وتعاون معه فيه علماء جغرافيون كبار، فكتب على أثره عاتق بن غيث البلادي، وعبد الله بن خميس، وسعد الجنيدل، ومحمد بن ناصر العبودي وغيرهم. ومن أكثر ما قرأت التصاقا بهذا السياق «معجم عالية نجد» لسعد الجنيدل، و«المجاز بين اليمامة للحجاز» لعبد الله بن خميس. مع استحضار خلافات دارت بينهما على بعض المواقع، وهو خلاف مثر ومفيد، نشر كثير منه على صفحات مجلة العرب التي كان يصدرها حمد الجاسر. لم أورد ما سبق لمجرد الذكرى، بل لأتساءل؛ ماذا صنعت هيئة السياحة تجاه هذا التراث الضخم والمتشعب والعظيم في شتى مناطق السعودية، وكيف قدر لهيئتنا الموقرة أن ترضى بأن تبقى بلا حس ولا خبر، سوى بعض المؤتمرات والندوات؟. لا أدري تحديدا ماذا تصنع هيئة السياحة السعودية، وأحسب أن كثيرا من القراء لا يدرون مثلي تماما، فالسياحة في أكثر دول العالم هي مصدر دخل ذو أهمية كبيرة جدا في دعم الاقتصاد الوطني، فبعض الدول تشكل السياحة مصدر اقتصادها الأساس، وبعض الدول الكبرى تشكل السياحة مصدرا شديد الأهمية في دعم اقتصادها القومي كأمريكا وبريطانيا وفرنسا وإسبانيا وغيرها. لئن افتخرت الأردن مثلا بتاريخها من خلال البتراء، فلنا أن نتساءل؛ ما هي البتراء أمام مدائن صالح؟، ولئن افتخرت مصر بأهرامها، فلنا أن نتساءل عن الأخدود في نجران وهو أقدم عهدا. ولئن افتخرت بعض الدول بوجود مدن تحت الأرض تروجها سياحيا كما حدث مع تركيا وسوريا وغيرهما، فلقد حدثني بعض كبار أسرتي أنهم كانوا يدخلون مع بعض «الدحول» إلى قرى تحت الأرض فيها ممرات وغرف ومجالس وبيوت كاملة، وأنا متأكد أن مناطق أخرى لديها أكثر من هذا. السؤال هنا هو؛ أين هيئة السياحة عن هذا كله، وماذا تصنع إن لم تروج هذا التراث القديم والمعرق في غياهب التاريخ؟. من حقّنا أن نفرض الشروط التي نريد على السياح، كما يحدث في كثير من الدول من حولنا، كالعباءة للمرأة واللباس المحتشم للرجل، كما يحدث في زيارة الجامع الأموي في دمشق، وكما يحدث في غيرها من الأماكن، ولكن أن تعطل كل هذه السياحة عن بكرة أبيها فهذا أمر غير مفهوم وغير منطقي. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 250 مسافة ثم الرسالة