في الثالث عشر من شهر نوفمبر وتحديداً الساعة السابعة صباحاً، هبطت طائرة بحجم أحلامي وآمالي وآلامي وترقبي كنت أركبها مسافرة إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية تحديداً إلى مدينة «لوس أنجلس», لم أذهب هناك للتنزه أو قضاء وقت جميل, بل ذهبت وعبرت تلك المسافات والبحار طمعاً في إشباع نظري وكافة حواسي برؤية أبي الذي تفاجأنا جميعاً بمرضه, والذي تألمنا كثيراً لوجعه, هو الذي بدأ مسيرة المرض والألم في التاسع عشر من رمضان الماضي, في هذا اليوم تحديداً بدأت رسمية مراسم مسيرته الحزينة مع المرض, وفي هذا التاريخ بالضبط دلف والدي نفقاً لم يعرف أين يبزغ النور منه, وانطلقت رحلة الصراع مع ذلك المرض الخبيث الذي اسمه السرطان, لم يكن هناك شيء يوحي لنا أو ينبئنا بهذا الخطر, لا إشارات ولو بسيطة ترسم ملامح طريق يؤدي إلى ذلك الداء العضال, إلا أن والدي قد شعر لوهلة بشيء ليس على ما يرام ولكنه تجاهله, فهو الرياضي الذي عشق الرياضة بأنواعها منذ نعومة أظفاره, فالمتتبع لسيرته سيستشعر ويستنشق من سطورها وعبق حروفها عشقه وشغفه للرياضة فهي كانت حبه الأول المفعم بالزخم والطموح, فلم يكن اختياره لكلية التربية الرياضية محل استغراب لدى الأهل والأصدقاء بل إنه عالمه الذي لطالما أحبه, فعيّن بعد تخرجه في وزارة التربية والتعليم في قطاع متصل بهوايته الأهم والأغلى (الرياضة) وتقلب في المناصب حتى تبوأ منصب مدير عام النشاط الطلابي في وزارة التربية والتعليم كما كان أمينا عاماً سابقاً لاتحاد الرياضة للجميع, وعضو في لجنة تطوير المنتخبات, ورئيساً سابقاً لنادي الدرعية, ورئيسا للجنة كرة قدم الصالات التي عيّن رئيسا لها بعد مرضه وغيرها من المناصب والمشاركات التي أثرت سجله الرياضي.. ولكن ورغم حبه وممارسته العلمية والعملية لمجال الرياضة إلا أن القدر كان يحمل له مرضاً لم يكن في الحسبان, فكيف يستطيع رياضي أن يتقبل فكرة توقفه عن ممارسة الرياضة وأداء عمله بالجودة التي كان يقدمها سابقاً، خصوصاً حين يكون هذا المرض بشراسة ما يسمى «المايتبل مايلوما» أو الورم النقوي المتعدد كما يسميه العرب, وهو مرض سرطاني يصيب الخلايا البلازمية من نوع B مما يؤدي إلى تكاثر هذه الخلايا بشكل غير طبيعي وتكدسها في نخاع العظم. ففي التاسع عشر من شهر رمضان بدأ يشعر والدي بالألم والإعياء الشديد ولكنه قرر أن يداوي نفسه في بداية الأمر بكثير من الأدوية المسكنة, وصفها- رحمه الله- لنفسه أملاً في تهدئة الآلام والشكوك التي بدأت تقفز على السطح, إلا أنها لم تكن لوجعه برداً وسلاما فقرر وبعد إلحاح من والدتي- حفظها الله- الذهاب إلى مستشفى الملك خالد الجامعي لعل الله يكشف ضره هناك, فدخل في ليلة مظلمة إلى الطوارئ ثم انتقل إلى العناية المركزة وحينها بدأت رحلة العذاب له ولأسرته, فبدأ الأطباء كل يدلي بدلوه ولكنهم وللأمانة نجحوا في تشخيص المرض نظراً لعدة أعراض يختص بها مرضى المايلوما أبرزها ارتفاع الكالسيوم في الدم, وهشاشة في العظام واختلال وظيفة الكلى, حينها كان الخبر مزلزلا ومربكا فلم نعرف ما هو معنى هذه الكلمة ومن هي تلك المايلوما التي اختارت أبي من بين الناس, وما هو ذلك المرض وما هي أسبابه وعلاجه ومع كل هذه الأسئلة الحائرة الخائفة الخانقة, كان أبي- رحمه الله- الأكثر هدوءً وإيماناً وتسليماً بقضاء الله وقدره رغم أن إصابته به تعني أن هناك كائناً سيعيش معه حياته لحظة بلحظة, ينام ويفيق معه يضحك ويبكي معه, لا يعنيه إن كنت تكره وجوده وتتمنى الخلاص منه وهو الذي لا يفرق ولا يهمه إن كنت أباً أو كنت بلا أبناء, إن كنت ناجحاً أو فاشلاً، إن كنت مؤمناً أو ساخطاً، إن كنت رياضياً أو كنت كسولاً إنه قدر وأنت مجبر على استقباله بكثير من الصبر والحكمة. فقرر والدي- رحمه الله- أن يشد رحاله إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية لعله يجد عافيته هناك في مستشفى قابعاً في إحدى ضواحي كاليفورنيا الهادئة مستشفى اسمه (مدينة الأمل) وبدأ العلاج في هذه المدينة الطبية بكثير من الصبر والعزيمة والقوة حتى أذهل الأطباء بقوة إرادته ورغبته العميقة الجادة في الشفاء والتغلب على المرض وأشهد أني طيلة فترة تواجدي معه, لم أسمعه يشتكي من ألم أو حزن وضيق على الرغم من أنه يعاني منها جميعاً إلا أنه كان رجلاً عظيماً صابراً حتى في أقسى درجات الألم وأشد لحظات الوجع, شديد التحمل شامخاً راسياً حتى في ألمه وضعفه, كان كالجبال التي لم تنقص الكهوف من شموخها, وحين بدأ يتماثل للشفاء قدر الله له أن يصاب بالتهاب رئوي حاد أوقف كل خطط العلاج وأخرها, فبدأ المرض يغزو جسده مرة أخرى حتى وصل لمرحلة يصعب معها علاجه حتى وافته المنية في يوم الرابع عشر من شهر فبراير الحالي.. مات أبي شامخاً مهيباً عظيماً.. وخلف وراءه حزنا لا تقوى السنين على ابتلاعه, فلم يكن رجلاً عادياً حتى يكون حبي له عادياً.. أحببته لأنه كان أكثر من مجرد أب, فهو كان بالنسبة لي أب وصديق وملهم ومحاور وعرّاب ورفيق درب وحكاية.. فإن كانت خسارة الأب فقط مؤلمة ولوعة حزنها مرة, فكيف بي أفقد كل هؤلاء؟؟ أحببت روحه المسكونة بالطفولة, وفكره الذي يتسع لجميع الآراء والأفكار, أحببت حتى ألمه وقدرتي على معالجته, أحببت ذلك السلام المزروع ملامح وتفاصيل وجهه الهادئ المريح أحببته لأنه كما هو, بشوش الوجه صاحب نكتة يصنع الفرح أينما حل, مثقف ومتحدث لا يشق له غبار, له حافظة قوية بالشعر والقصص, يحب نجد والصحراء, والمملكة بكل أجزائها, من جيزانها إلى تبوكها ومن الخبر في أقصى الشرق إلى البحر الأحمر النابض في الغرب, كيف لا ولم يمض أسبوع من حياته دون أن يمر على تلك المحافظة والهجرة, ويرحل إلى تلك المدينة أو تلك, ملبياً نداء الوطن المرتفع في أعماقه, فهو من كان يتحدث عن وطنه في غربته كما يتحدث الظمآن عن الماء, كما يسهب الابن المعجب بأبيه بالحديث عنه, هو من أحب عمله بإخلاص أصبح نادراً وثميناً في هذا الزمن, وأنا لا أتحدث عن الإخلاص الذي يفهمه البعض من خلال الحضور مبكراً والمغادرة من المكتب متأخراً لا.. هذا ليس ما أتحدث عنه, أنا أتحدث عن سنين طويلة وأنا أرى الفرح والرضا يشع من عينيه بعد كل يوم عمل حين يتحدث عن الأخبار والإنجازات التي حققها فيها, عن أحلام لم تهدأ أو تتوقف يوماً ليس لنفسه أو مستقبله بل آماله وأحلامه كانت تتلخص في الإنجاز في عمله وتطوير أداء الموظفين, كان يحلم بمساحة يرصف بها دروعه التكريمية التي تقدر بالمئات, فهي ثروته التي كان يفتخر بها, حتى وهو على سرير المستشفى يصارع أشد أنواع الأمراض كان يرد على رسائل الموظفين المحتاجين إلى نصائحه وتوجيهاته, فكم كنت عظيماً يا أبي وكم هي فادحة خسارتنا وخسارة الوطن. كان محبوباً من قبل الجميع, هو من يصاب أحباؤه بالفرح حينما يحضر, هو من لم يقدر أحباؤه على فعل الكلام من بعده, رأيت الفخر والإعجاب والحب الحقيقي في أعينهم عند الحديث عنه, فلم يهدأ هاتفه منذ أن حط في الولاياتالمتحدة, فكان- رحمه الله- يستقطع من وقته يومياً ليبشر أصدقاءه بشفاء قارب على المجيء ويرد على رسائل تنتفض شوقاً إليه, رسائل واتصالات لم تتوقف عن الحضور يوماً محملة بمشاعر عابرة للأميال والقارات. فأي أب كنت يا أبي وأي حزن سيطغى على حياتنا من بعدك؟؟ لا يعزيني شيء بفقدك لا شيء, كيف هي الحياة من بعدك؟ كيف سيبدو البيت بدونك؟ كيف هي الشوارع والمحلات؟ كيف سأرى ذات الوجوه التي أحببتها دون أن أحدق فيها بحثاً عنك عن ملامحك؟ كيف سأمشط ذات الشوارع دون أن أتذكر أحاديثنا ومشاويرنا عبرها؟ كم هي شاحبة مظلمة الصباحات من بعدك.. كم هي مملة وخانقة الدنيا بدونك.. دلني أين أجد ابتساماتك وحنانك سأسافر لأقاصي الدنيا من أجلها فقط أخبرني أين أجدها فأنا أبحث عنك في كل مكان, أريد أن أراك وأطبع قبلة صباحية على يديك, أريد أن أغرق في حضنك, أريد أن أشعر بلذة الأمان مرة أخرى, فلا أجدك وأكتشف أن تعويضك هو أكثر إعجازاً من وجودك, يا أيها الشهم الكبير القريب من ربك والناس فكم نحن محزونون على فراقك يا أبا عبدلله. أخيراً.. دعوني أخبركم سراً عني بل وعنه, كنت أقرأ مقالاتي عليه كل أسبوع فأرى الرضا والإعجاب حيناً وأرى التردد وعدم الاقتناع أحياناً أخرى فأفهم ضرورة تعديل المقال ليحظى بقبول وإعجاب أبي ورئيس تحريري الخاص ولكن الفخر هو ما كنت أراه في عينيه دائما.. فمن يمنح مقالاتي البركة اليوم؟؟ ومن يسكب الحب على حروفي؟ فلأول مرة مقالي بلا عنوان بلا فخر بلا أبي.. فلقد رحل من كان كل عناويني.. لا أقوى على وداعك حتى بالكلمات لكنك ستبقى نجماً مشعاً في سمائي وتاجاً ثميناً على رأسي ستبقى حاضراً في أحاديثي في بريق عيناي في صلواتي في خطواتي في دمعاتي وابتساماتي.. فرحمك الله يا فقيدي وفقيد الأسرة والوطن وأسكنك في الفردوس الأعلى وجعل ما قمت به في ميزان حسناتك يوم القيامة إنه جواد كريم. نبض الضمير: هو الموت ما منه ملاذ ومهرب متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب