وحين نؤكد على أن «النقد الثقافي» معهود ذهني قائم في الثقافة العربية، قبل أن يكون مصطلحاً ذا خصوصية محلية، تقوم على تحديد مهمته: باختراع الاتهام، وصياغة المواجهة، فإننا نتحفظ على القول بالمبادرة، ولا نراها إلا بهذه النسقية «البراغشية»، ونتحفظ على النتائج ونتمنى أن ترحب الصدور الحصرة للرأي الآخر، سعيا وراء تحرير القضايا المشتركة. والحديث المسفط عن «النظرية والمنهج 55» ودعوى النقلة النوعية للفعل النقدي من كونه الأدبي إلى كونه الثقافي، والعمليات الاجرائية المتمثلة بالنقلات الأربع: «المصطلحية» و«المفهومية» و«الوظيفية» و«التطبيقية» كمن يحاول الاستتار بثوب الزور، والمشروع المعرفي غير الشروع في التهديم. لقد شاع «النقد الثقافي» في الغرب بوصفه مصطلحاً ذا أيديولوجية محددة على يد «ليفس ترادي» المعروف بنزوعه الماركسي، والماركسية هي التي ركعت البنيويين، ليكونوا تكوينيين، يشتغلون بالموضوع، ولا يهربون إلى اللغة، على طريقة الشكلانيين الروس. ثم اتخذ طريقه بهذا الهاجس إلى مصر على يد رموز الحداثة، في محاولة يائسة دنيئة: يائسة للخروج من نفق المضايقة، التي واجهها الظلاميون من الرأي العام المصري المسكون بالعاطفة الدينية. ودنيئة لضرب «ثقافة الردة» كما يسميها التنويريون، ويقصدون بها «ثقافة الفكر الإسلامي». على أن «النقد الثقافي» من قبل التدنيس الماركسي والتمويه الحداثي أمشاج من اتجاهات ومذاهب وآليات، تخلط الاجتماعي بالأدبي، والثقافي بالفكري، وتتبادل المواقع، منذ الجاحظ وابن قتيبة والأصفهاني وأصحاب الموسوعات إلى الآن، ولا يكفي تعميده باختراع عنصر سابع يضاف إلى توصيف «باكبسون» ولأنه مصطلح يتساوق مع مصطلح «النقد الثقافي» و«الأدب المفتوح» الفرنسيين، فقد شغل الذين لا يتابعون، ولا ينظرون إلى الأشياء إلا من كوى أشياخهم. والذين يظنون أن النقد العربي بكل ما هو عليه من مناهج وآليات وقضايا وظواهر، والأدب العربي بكل تحولاته واتجاهاته غير مشتملين على مثل تلك الظواهر، يجهلون أو يغالطون. وفرصة المتجشئين من فراغ تكمن فيمن لا يعرفون التراث، ولا يتابعون فيوض المعاصرة، ممن تلقيهم محصور في أنهر الصحف. و«النقد الأدبي» منذ الجاهلية الأولى حتى جاهلية القرن الثاني والعشرين خسفت به وبما هو عليه من ثراثية ومعاصرة حماقة نزقة، بدعوى انشغاله بالجماليات العظيمة التي تخبئ القبحيات العظيمة المؤسسة للشخصية العربية ص 94، وعدوله عن قبح الأنساق. وكانت البنيوية من قبل قد همشته لاشتغاله بما هو خارج لغوية النص، وفات الجنائزي ظاهرة «النقد الأخلاقي» وهو منهج نقدي تمتد جذوره منذ العصور اليونانية، ومنذ ظاهرة «المدن الفاضلة» التي نفي الشعراء منها، ومنذ التوجيه الرباني الذي فرق بين شعراء الهداية وشعراء الغواية، وهو ما سنفرد له حديثاً في سياق الحديث عن «النقد الإسلامي» لاثبات أن «النقد الأدبي» يشتغل بالجمالية البلاغية والأخلاقية، ولما يقصر عما امتدت إليه يد «النقد الثقافي». ومن الظلم أن يقال إن: «النقد الأدبي مع هذا وعلى الرغم من هذا أو بسببه أوقع نفسه وأوقعنا في حالة من العمى الثقافي التام عن العيوب ص8». وهل أحد من النقاد والدارسين قد عمي عن تألق النص حين يجمع بين «شرف اللفظ« و«شرف المعنى»؟ وهل غفل القرآن الكريم وهو المؤثر الأقوى في صياغة الأنساق الثقافية عن أهمية الكلمة، وكيف تغفل الثقافة الإسلامية والكلمة اعجازها ووعاء تشريعها؟ وجناية البنيوية الموثقة ب«الخطيئة والتكفير» بوصفه وثيقة لواحد من المشاريع الخاوية على عروشها هي التي تركت الفراغ النسقي المستدرك بالنقد الثقافي، ومستعيرو البنيوية كما استعاروا النقد الثقافي هم الذين أغثونا بها زمناً لم يطل أمده، وقلموا بها أظافر «النقد الأدبي» التي كان يمارس بها الحفريات المعرفية والنسقية، وأصحاب «التقليعات» أضاعوا الجهد بالفعل ورد الفعل. فحين كان «النقد الأدبي» متسعاً للتكوينية والموضوعية والأسلوبية، حصره البنيويون بالبنائية اللغوية، وحين أحسوا بالعزلة عن الحياة، كانت ردة الفعل متمثلة بالنقد الثقافي، محققة العود على بدء. و«النقد الثقافي» حين لا نقيم وزناً لدعوى اختراع العنصر السابع «النسقي» وعلى أحسن أحواله، لا يعدو كونه اشتغالاً بالمثقوف من القول والفعل، من خلال ضوابط فنية وأخلاقية وفكرية واجتماعية، نفيت بدعوى اختراع الاتهام لشرعنة الوقيعة. نقول هذا على افتراض حسن النية، وإلا ف«النقد الثقافي» «المُمَصَّر» ضربٌ لما يسمى «بالردة الثقافية» بعد تجربة «النهضة» على يد محمد علي، ثم «الثورة» على يد الثوريين الذين عصفت بهم العلمانية والماركسية والوجودية والواقعية والفرويدية، وسائر الأيدلوجيات التي كان البعض منا معها كما الأغربة الأدلاء. و«النقد الثقافي» في مرحلة «السعودة» يتوسل ب«النسقية» المتشرذمة بين : السياسة والاجتماع والشعر. وحين تطرح المصطلحات الحمالة في مشاهدنا الفكرية والثقافية والسياسية فمن حقنا أن نتساءل، لا من أجل الرفض بدعوى الاستغناء والتشبع، ولكن من أجل التصور السليم والقبول الكريم والتعامل الرشيد. لماذا طرحت؟ ولصالح من طرحت؟ وهل من تفريغ لمحتوياتها؟ وهل نحن بحاجة إلى مثلها بمقاصد منشئيها أو برغبة مستعيريها؟ ولماذا اتخذت بديلاً، ولم تتخذ رديفاً؟ ولماذا مهِّد الطريق لها بإدانة «النقد الأدبي» وتقبيح الثقافة العربية واتهام الشعر؟ ولماذا فوجئنا بها تطبيقاً دون تأصيل معرفي، إلا ما جاء في سياق الحديث عن رؤية «ياكبسون» واضافة عنصر سابع؟ وهل لا يكون «النقد الثقافي» حتى يكون البدء بمحاكمة الانساق الثقافية من «أواخر العصر الجاهلي 143» والقول ب«تحول الخطاب الثقافي إلى خطاب كاذب ومنافق»، ووصف هذا التحول بأنه «أخطر تحول حدث في الثقافة العربية ص 143» والمتمثل بظهور «شاعر المديح ص 143»؟ وهل لم يكن هناك تحول في الثقافة العربية في أواخر العصر الجاهلي موصوف بأخطر تحول إلا ظهور شاعر المديح؟. إن خطر شاعر المديح أهون ضرراً من ناثر الهجاء لثقافة أمة اختصرت بشاعر المديح، وكيف يجرؤ كاتب على القول بأن شاعر المديح أخطر حدث في أواخر العصر الجاهلي، أن يقول ذلك أعجمي يعميه الهوى المطاع فأمر متوقع، أما أن يقوله غير أعجمي فأمر يبعث على الارتياب. وهلا عرفت ثقافات الأمم وأنساقها شعراء المديح لتمرغ ثقافة العرب وأنساقها في الرغام بسبب انفرادها بشاعر المديح. إننا لو نزعنا اسم المؤلف من الكتاب المشروع، واستفتينا الرأي العام، لمن يكون؟ لأحيل إلى الاستشراق بمعلنه لا بمضمره. لقد طرحت نظريات ومذاهب، يقدمها تنظير يضبط إيقاعها. طرحت البنيوية بمقدمات نظرية، لم تشهد مثلها الظواهر من قبل، ولما يطرح «النقد الثقافي» بذات القدر من التنظير. والهلاميات، ودعوى الاختراع النسقي، لا يكفي لتحرير المشروع. لقد اتخذ «النقد الثقافي» سبيله لتجريح النسق الثقافي العربي كما المصارع الذي ينقض على خصمه، قبل خلع الملابس، وقبل اطلاق الحكم الإذن بالبدء :« تغير المنصور من رجل يستشير في كل أمره إلى رجل مستبد ومطلقِ، غَيَّره بيت من الشعر 156» ، «وأخلاق الوالي تغير أخلاق الشاعر كما غير عمر جريراً 157 .. ولكن.. ماذا جرى لحادثة عمر بن عبدالعزيز..؟ هذه الحادثة التي ظلت معزولة، وكأنما هي جملة ثقافية معترضة 158» فالخيرية جملة اعتراضية في النسق الثقافي العربي، أما تغير المنصور وعدم استشارته فقد ظل قائماً، وبمثل هذا التقحم العنيف يكون توجيه «الكرم العربي»، إذ لا يحيل على الشيم العربية، وإنما يحيل على «أن عدم استضافته يعني الموت 145»، وأين هو من «إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا» و«يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة» و«يطعمون الطعام على حبه» . ضغائن لا مبرر لها، وقد تكون وثيقة إدانة مزورة للثقافة يلتقطها المناوئون، لقد كان بإمكان «النقد الثقافي» أن يكون دون موت للرديف ودون إدانة للثقافة. والمصلحون الناصحون لا يقفون حيث يكون استقصاء القبحيات. وحين نسلم بكل ما وسعه الكتاب المشروع من قبحيات، فما البديل الذي طرحه الناقد الثقافي، لقد ساق القبحيات يداً بيد، ولَّما يقاضي ولو بالنسيئة. والسؤال: هل «النقد الثقافي» يعني الاقصاء المتعمد لأي مؤثر غير الأرذل من الشعر؟ وربما كان القول بالموت قطعاً لدابر أي منهج يتطلف في تعامله مع السوائد والأنساق. أميت «المؤلف» مع «البنيوية»، وأميت «النقد الأدبي» مع «النقد الثقافي» وأميت «النحو والصرف» مع «التوليدية»، ومع القتل الهمجي المجاني لم نكن بإزاء بدائل تجبر المصاب، ولما يعد الشك في حياة أي شيء ممن حكم بموته، ولكن الشك كل الشك في حياة «البنيوية» و«النقد الثقافي» و«التوليدية» وقد كفينا الحكم بموت «البنيوية»، إذ جاءت من ذويها، وعما قريب سنسمع بموت «النقد الثقافي» من ذات القوم. وفي احتفالية الإحياء والإماتة نتخلى عن أي معهود أو مفهوم، ونتساءل: ما «النقد الثقافي» بوصفه دعوى محلية على كل التوقعات؟ لقد عرفناه «مصرياً» و«فرنسياً» على اعتبار أن هناك دعوى فرنسية تحال إلى الماركسية ودعوى مصرية تحال إلى الحداثة، ولما نتصوره محلياً إلا من خلال تجليات النسق الثقافي القبيح المتوسل بجماليات الشعر القولية المسكون بهم التطهير النسقي، والسؤال الممتعض: ماذا فعل مع قبحيات الرواية، ولماذا لم يضع «الخبز الحافي و«الوليمة» بدل «الشحاذ العظيم «و«المداح العظيم»؟ فالزمن «زمن الرواية» كما يقول الحداثيون، ولربما تعاد صياغة الأنساق من خلالها. وحين لا يتردد أحد في القول بأن «النقد الثقافي« ليس مبادرة محلية، فما علاقة الدعوى المحلية بالمصرية والفرنسية: وهل هو على إطلاقه أو على تقييده بالمحلية؟. وحين نقيده بالمحلية، فهلا يكون إلا حطيئياً ممعناً في الهجاء معيداً التفحلن؟ ولكنه هذه المرة للنثر، وليس للشعر، وبالتالي لا نحقق إلا قيام فحل بتسلط بالقبحيات، فبدل أن تكون العملية: قبحاً يتوسل بالجمال. تكون قبحاً يتقحم بالقبح، ويكون الناتج نقداً ثقافياً. والظواهر المجلوبة لا تتخلص من شوائبها غير أنها تكون مقموعة برقابة السوائد والأنساق، ومن ثم تتخذ لبوساً توسلياً لا يتحرف إلا في الظاهر، وهذه التوقعات لمعرفتنا إن هناك جغرافيات: فكرية واجتماعية وسياسية ومعرفية ومنهجية لا ينفك من آثارها أي وافد، ولا ينفلت من صبغتها أي ناشئ ينسل من رحم الحاجة، أو يتسلق المحراب. ولأن «النقد الثقافي» لم يكن مبادرة محلية، وإن بورك من الغوغاء فهل سيكون كما هو عند الحداثيين في مصر، أو كما هو عند الماركسيين في فرنسا؟ وهل يختص بمنهج أو بآلية؟ أم أنه سيقتصر على ضرب الأنساق المتنازع عليها بين الثقافة والاجتماع والسياسة والأيديولوجيات؟ وهل العنصر النسقي السابع المخترع كاف لتحرير المقاصد والأهداف. لقد كانت مواجهة الأنساق الثقافية وتصورها وقصرها على السيئ من الشعر والكاذب من الخرافة من حوافز الارتياب، و«النقد الثقافي» بهذا الاتجاه ليس بحاجة إلى تخلية المشاهد، إذ هو يشتغل في أشياء ليست من الأدب إلا في شكلها. وحين نقضي بموت «النقد الأدبي» لارتكابه جريرة مخادعتنا بجماليات النص، وتستره على قبحياته التي شكلت أنساقنا وأحدثت لنا عمى ثقافياً، فهل نميت معه الأدب الحامل لهذا الفيروس النسقي، أم يكون مفردة ثقافية هامشية مدانة؟ بوصف «النقد الثقافي» متوسلاً بإدانة الثقافة ببعض مفردات الأدب. وحين لا يكون الموت للأدب، فهل يظل تحت الوصاية منزوياً في هوامش الثقافة محكوم عليه بالمؤبد، ولا يُستدعى إلا حيث تتهم مفرداته بالتشعرن والتفحلن؟. وهل «النقد الثقافي» لا يبرح نقد الثقافة السائدة بآلية ومنهج ثقافيين على حد: اشتغال باللغة في اللغة، كما قيل عن بعض الأعراب بوصفه للنحاة والصرفيين: يتحدثون باللغة عن اللغة؟ وحين يكون نقداً للثقافة من خلال أنساقها المضمرة في الشعر والمتجلية في السلوك، وذلك ما لمسناه، فما القدر الذي فوق النقد وفوق المساءلة؟ وهذا تساؤل مشروع، فالثقافة الإسلامية لها خصوصية، لأنها مزيج من الوحي والقول البشري، وهي على العموم منتج إسلامي لا ينفك منها نصارى العرب فضلاً عن مسلميهم. وحين يوغل «النقد الثقافي» المحلي في نقد أنساق الثقافة، فهل سيقال عن جوانب الثقافة الايجابية ما قيل في النسق السياسي العمري «وكأنما هي جملة ثقافية معترضة 158» وكأن الخيرية في ثقافتنا تشكل جملاً اعتراضية، لا مكان لها إلى جانب القبح المضخم، وهو ما سنعرض له بالنص الموثق.وحين يتجه «النقد الثقافي» إلى ذات الثقافة بشقيها: النصي، والسلوكي، هل يتخلص من علم الاجتماع، وعلم النفس، بوصفهما علمين ينتمي إلى كل منهما مذهب نقدي متلبس بذات التخصص؟. فهناك «النقد الاجتماعي» الذي حرر مسائلة «تين» وتوسل به «طه حسين»، وهناك «النقد النفسي» الذي نظّر له ، وطبق من خلاله عدد من الأدباء والمفكرين والنقاد من مثل «العقاد» و«عز الدين اسماعيل وآخرين. أحسب أن «النقد الثقافي» كما المصطلحات المجلوبة مراوغ متعدد التصور بتعدد الأزمنة والأمكنة وطوايا النقاد، ولهذا لا أجد من الانصاف جمع المتبنين له غربياً وعربياً ومحلياً في سلة واحدة، فالمقلد يقعد به قصور الفهم، وجور الفرضيات، وعجز التطبيق، واختلاف الجغرافيا الفكرية عن أن يكون كما المؤصل للمنهج. وتجربة أولئك مع الحداثة والبنيوية تعيد إلى الذاكرة انطباعها الخائب. ومراوغة المصطلحات ليست ذاتية، وإنما هي عارضة، ذلك أن الذين تمتد أيديهم إليها يدَّعون محليتها، فيما يدعي آخرون وفادتها، فيأخذ بها قوم على ما كانت عليه في المنشأ، ويحاول آخرون التغيير الظاهري، ومن ثم تنشأ المراوغة، في اطار لعبة الاحتمالات ونافقاء اليرابيع، وأخشى ما أخشاه على ثقافتنا تلقي راية الحقد الاستشراقي والنهوض بمهماتها على يد الداخلين في جحور الضباب، والقيم لا يجهز عليها جملة واحدة ولكنها تنقض عروة عروة