نادى الصوت الجريح ...، من بين دياجير الظلام أمَّاه.. من يطفىء هذه النيران؟ يرحم من غدا ذليلا يساق، من كبتت صيحته في حين تتعالى صيحات الاضطهاد، من يرحم من هاجره الأمن والأمل، تركه يحترق في النيران، صائحاً في الظلام؟ أماه من يمد يديه الى أسير في القيد، من يحن على هذا القلب المكلوم المنتظر، من يحن عليه من يرحم هذا الصب الكسير؟ من يجيب شكواه؟ فترد الأم، زفرات تزيد من وحشة الظلام: لنا الله.. لنا الله فيعود صوت الطفولة الذي لم ييأس، ولكنه يجهل اشياء، واشياء، إنه ضياع.. وحق له من ضياع، ألم ويا له من ألم.. فأسبلت الأم عينيها الحزينتين وقد غشيتها سحابة من الدموع امتزج وابلها بالحزن والألم، فأخذت اليدان تناشدان الله الرحمة، وضمتهمها بخشوع؛ لعلَّه يأتي الدفء.. فيلح السؤال.. ويبقى الجواب: لنا الله.. لنا الله.. أماه.. انظري إلى هذا التراب كم ضم أجساداً صالت في هذه الأرض وجالت، فمات القلب مفعما ضامئاً يشكو، كم أخمد هذا التراب من صيحة تدوي في الآفاق.. نصر لا ذلة.. تريد الحرية.. تأبى العبودية، فما وجدت لها من مجيب سوى طلق الرصاص، في غضب قرد عاث بالسلاح، في غضب قرد.. صفقت له قرود تقبع فوق كرسي المشاهدة والاستمتاع. أماه.. كم تشهد هذه الأرض من نائحة كم رقد هذا الطرف والدمع ملء الجفون، أماه.. هل أنا أهون الخلق مصيبة؟ عزيني في المصاب؟ لعل هناك حزينا مثلي يفقد حقوقه في العيش! يبيت في خيمة هزيلة.. تعوي في جنباتها الريح لتزيد في ليل العذاب أماه! اجيبي يا أماه.. فيرد صوت الحزن المغبون: لنا الله.. لنا الله. أماه.. هل يعلم ابناء يعرب مأساتي.. أصارع فيها الألم يلفني الضياع.. يهددني في مرقدي القصف والرصاص.. أماه.. تقطعت بنا الأسباب.. ونفد الزاد.. تلقتنا ظلمات الحياة وأمسينا في لججها.. لسعتنا النيران فهل من مجيب. فترد الأم: قد أثقلت كاهلي بالسؤال.. وغلت بالسيف على جراح لم تندمل.. نحن قصة دهرٍ حسيرة.. فصولها مبكية، ونهايتها بالخسارة محتومة.. دم رخيص.. ارخصته صروف الليالي. نعم يا بني.. إلى كل قلب قاس، أو ما يدعونه الضمير العالمي.. ستبقى آثارنا في كل ركن.. وكل مكان.. ستبقى انفاسنا المتهدجة على خريطة العالم.. خير عنوان ستبقى الدماء الرخيصة على الجدران وعلى الأرض تراق.. ستبقى المدامع واجزاء الأمتعة المتناثرة سيبقى صدى الصراخ يتردد في الأركان. سنعود الى القدس.. سينقمع القرود، ستنهار الجدر ويهزم الجمع ويولون الدبر.. أصحيح يا أماه.. سأحيا بعد ذلك إنسانا.. اجيبي يا أماه. والأم أتعبها السؤال.. عندما لم تجد له جواب، في حين أرهقها الجواب.. وأعيت الحيل.