كثيراً ما يساعد البحث في الكتب القديمة أو الوثائق في اكتشاف كتب صغيرة ورسائل موجزة، كتبها الأوّلون في موضوعات قصيرة، وهي تحمل بين ثناياها، بعد مضي مدة على صدورها، معلومات ثمينة، لم تكن قيمتها لتقدّر لولا مضي فترة عليها، وهو شأن كل شيء وثائقي. أذكر هذه المقدمة الاستنتاجية، والمكتبة السعودية تتلقّف هذه الأيام من يد أحد أساتذة التأريخ والتوثيق، كتاباً صغيراً من نوع مختلف في مضمونه، فريد في عنوانه، مخدوم في توثيقه، فضلاً عما اعتدناه من مؤلفه من جمال في الأسلوب، وسلاسة في التعبير، وبراعة في اختيار العبارات. كتاب: حديث الركبتين )160 صفحة، مطبعة سفير بالرياض 1422ه( هو آخر إصدارات د. عبدالعزيز الخويطر، يروي فيه تجربته مع إجراء عملية جراحية رئيسية لركبتيه معاً قبل خمسة أعوام في سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة، وقد طبع منه كمية محدودة - غير مخصصة للبيع - لاعتقاده بخصوصية موضوعه، ومحدودية من يهتم بمضمونه، ولا أخال مؤلفه إلا سعيداً بإهدائه لكل من يرغب في الاطلاع عليه، أو يحتاج إلى معلوماته، ومستعداً لوضعه في متناول العيادات الطبيّة المتخصصة. يظن القارئ لمثل هذه الكتابات في البداية، أن الموضوع محدود، وأنه لا يحتمل تأليف كتاب كهذا، لكن من يطلع على ما تضمنه من معلومات ومواقف، يجد أنه يشكّل أهمية بالغة للمئات ممن يعانون من جنس المشكلة الصحية التي مرّ بها المؤلف، وأنه يجيب على كثير من الاستفسارات عن المكان والطريقة والنتائج التي حصل عليها. والكتاب، رغم صغره، فيه جوانب عدة تفيد التأليف والتدوين والباحث والقارئ، فهو يقول لأصحاب المقدرة على الكتابة: لا تحتقروا موضوعاً يمكن إشراك المجتمع في فائدته مهما كان خاصاً أو بسيطاً أو محدود المحيط. ومؤلف مثل د. الخويطر عوّدنا أن يصنع من الموضوع الصغير موضوعاً جذاباً مهماً، وأن يلفت النظر إلى جوانب فنية قد لا يعيرها البعض ما تستحق من اهتمام، وأن يستنبط من أطرافه معطيات شيقة ومفيدة، وما زلت أذكر مواقف نقدية عديدة تناول فيها مؤلفنا دواوين شعرية أو رسائل صغيرة، استخرج منها وعنها دراسة مستفيضة، مع أن القارئ المثقف يمكن أن يمر عليها مرور الكرام. وكتاب «حديث الركبتين» يعرض للباحثين كيف يمكن للمرء أن يسجل ذكرياته، وأن يدوّن كل شيء مهما بلغ صغره، وكيف يمكن للباحث المتمكّن المحترف أن يلتزم بكل قواعد التوثيق والفهرسة والتحقيق، حتى وإن كان الموضوع المطروح مجرد ذكريات شخصية أو تجربة عائلية، فالكتاب أنموذج جيد، لما يجب أن تكون عليه صنعة التأليف من تخصص واحتراف واهتمام بقواعد الكتابة، وهو أمر أصبح يتنامى في مؤلفاته الأخيرة على وجه الخصوص، فضلاً عما كنا نعرفه عنه من قبل من مراعاة متناهية لأمور الترقيم وعلامات الكتابة ونوع الخط والورق وخلافها. والكتاب يوثق بالأسماء والوظائف والمواضع والتواريخ والفهارس كل أحداثه وهو أمر قد يبدو هامشياً الآن، لكنني أتصور كيف يمكن لهذه المعلومات أن تكون جوهرية بعد عقود، تماماً كما نلمسه اليوم، بمتعة متناهية، عندما نعود إلى عدد قديم من جريدة أم القرى، أو مجلة المنهل، أو مجلة اليمامة أو إلى كتيبات صغيرة مثل: الرحلة الملكية ليوسف ياسين أو رحلة الربيع لفؤاد شاكر أو يوميات أحمد علي، وهي بالمناسبة أمثلة جيدة لتلك الرسائل القصيرة ذات المواضيع المحددة، أو في الأصح ما يمكن تسميته: أدب الذكريات والمذكرات، وهي الكتب التي أشرت إليها في مطلع المقال، وكان من مبلغ أهميتها أن أعادت دارة الملك عبدالعزيز طبعها وإصدارها بمناسبة الذكرى المئوية. لقد استمتعت - على مدى ساعتين - بقراءة الكتاب: موضوعاً وفناً وصناعةً، وسعدت بتلقّيه هدية من مؤلفة،وشكرت لركبتيه وقلمه أن أهدت للمكتبة الوطنية، ولمن يعاني مما عانى منه، رسالة ستزداد قيمتها مع الأيام.