المذكرات الأدبية شكل من أشكال تدوين وكتابة السيرة الذاتية، وهي فن ازدهر وتألق في القرن الثامن عشر، ولها بطل وهو كاتبها ومؤلفها، وهو يؤدي دوراً فاعلاً مبرزاً في سياقه لأحداث ووقائع سيرته التي هو بصدد رسمها ووضع الخطوط العريضة لها، والمذكرات الأدبية معنية ومهتمة بالتركيز على الشخصيات المذكورة فيها، وعلى الأحداث المنوطة بها، وتلتزم شخصية الكاتب بتدوين ما يدور من حولها، ولهذا تأتي هذه المذكرات الخويطرية كتحفة أدبية رائعة بديعة، لتسجل أحداثاً شهدها وعاشها وخاضها معالي الأديب الأريب عبدالعزيز بن عبدالله الخويطر - حفظه الله ورعاه - وبين ناظري الجزء الثاني من مذكراته الميمونة الطالع، وقد جادت بها الأيادي البيضاء ذات الأصابع الذهبية سفير، وبين يدي الطبعة الأولى من عام 1426 ه - 2005م. يقول المؤلف - حرسه الله - في مقدمة مذكراته ذات الاسم الجميل: (وسم على أديم الزمن) ما نصه وفحواه وماهيته ما يلي: (هذا هو الجزء الثاني من مذكراتي (وسم على أديم الزمن) وما فيه هو امتداد لما جاء في الجزء الأول من معلومات، وقد يكون ما جاء فيه تكملة لبعض ما ورد هناك، وقد تكون إضافة، ولكنه مثل سابقه لم يخرج عن نطاق الحديث عن حياتي في عنيزة إلا في الغزو القليل).. ثم يسترسل معاليه في التفريق بين الجزءين قائلاً: (وفي الجزء الأول دارت الأحاديث عن أشخاص والحديث في هذا الجزء تغلب عليه الوقائع أو المظاهر المحددة، وهي جميعاً تأخذ حقها من الوصف، وكنت في مسودة الجزء الأول والثاني كتبت مفصلاً عن خطط البيوت والشوارع، ولكني وجدت أن هذا سوف يكون مملاً فأسقطته، وقد يكون له مكان أو فائدة في كتاب آخر، ولكني لن أستغني عن وصف بعض الأماكن التي يعتمد قص الحوادث وأخبارها عليها). وإذا تأملنا الكتاب رأينا من خلاله الأحداث العنيزية، والأحاديث الخويطرية تتألق من جميع أطرافها، وتحكي الحياة التي عاشها بطلها بكل ما فيها من سلبيات وإيجابيات، وبكل ما فيها أيضاً من محاسن وعيوب، فغدت مذكرات أدبية يحدوها الاعترافات الصريحة والتي جعلت من هذه المذكرات ضرباً ونوعاً من القصص الحي البديع الرفيع، وحينما كتب الخويطر قصصه هذا، أعطانا صورة واضحة لتلك الأيام التي عاشها، وتلك الأحداث التي عاصرها، وهو يكتب لنا بلغة بديعة، سهلة ممتنعة دقيقة، فيقول في خضم مقدمته الوديعة ما نصه: (وأظهر ما في هذا الجزء هو الحديث عن البيئة، ومظاهر الحياة في عنيزة خاصة، وفي نجد عامة، وهذا أيضاً هو إطار حياتي، وحياة زملائي ومن عاصرنا، وسوف يجد فيه معاصري ما أؤمله من متعة الذكريات لهم، فيجترون معي ذكريات الصبا، أما شباب اليوم فاستفادتهم منه تدور في مجال مقارنة حاضرهم بماضي آبائهم وأجدادهم فحسب، وفي هذا مجال للتبصر والتدبر وقول: الحمدلله على ما أنعم به عليهم من نعم لا تحصى).. هذا وقد أبدع الوزير الأريب في حكاية تجاربه الحياتية، ومغامراته العمرية، وأبدع أكثر فأكثر حينما أخذ بتلابيب القلوب راسماً مشاعره، وواسماً انفعالاته وتتمثل هذه الناحية في قوله: (أود أن أذكر القارئ الكريم أن ما قد يجد أنه يصعب على العقل قبوله ما هو إلا فكر مرّ بصاحب المذكرات في سن تقبل غير المعقول بسهولة، بل قد تتطلع إلى ما فيه من غرابة، ويشدها أكثر مما قد يكون مطابقاً للواقع.. وقد يقال إن ما في هذين الجزءين من المذكرات عن حياتي في عنيزة لا يصل إلى حد أهمية التسجيل والإشاعة، وأعود فأكرر ماذا يرجى من حياة صبي يمر بسني حياته الأولى قبل البلوغ؟ وليسأل كل قارئ نفسه لو أراد أن يكتب عن حياته في مثل هذه السن المبكرة ماذا سيجد مما يمكن أن يكتبه غير هذا وأمثاله).. فهذا الكتاب يكاد أن يرسم صورة، ويكتب قصة، لطفل صغير يدب نحو الثالثة عشرة من سني عمره المتطاول، وذلك حينما كان في أرض النماء العنيزية التي جادت لنا بالأدباء والمفكرين والعلماء من كل حدب وصوب وناحية واتجاه، وهذا الصبي لا يتعالى على أبناء جيله بل هو متواضع كريم النفس وعظيم الخلق، حين يُحد حياته كحياة الآلاف من صبيان عنيزة - عمرها الله - في ذلك الوقت، وهذا الجزء الثاني من وسم الخويطر على أديم حياته في عنيزة يعطينا صورة صادقة نابضة بالحياة متحركة فاعلة لحياة الصيبان في ذلك الزمن. وهذه الصورة الخويطرية أعتنى بها من قبل راسمها وفنانها لتعطينا تصويراً دقيقاً للبيئة والمجتمع والشخصيات والمشاهد والأماكن، التي عاشها مؤلف الكتاب، وهذه الذكريات الخويطرية العنيزية عمادها الذاكرة في استرجاع الأحداث، وتذكر الأحاديث بعد مدة من الزمن ووهلة من التوقف قد تطول وقد تقصر، ولهذا جاء في مقدمة الكتاب التنبيه على ألاّ (يتوقع الناظر في هذا الكتاب أنه سيكون مسليّاً مثل كتاب (أي بني) وأنه لن يمر بما يمله من القراءة، فذاك كتاب يخاطب الشباب، فهو لفئة معينة، ومواضيعه منتقاة، وتمثل أهدافاً محددة مختارة، وتأتي أحياناً قصص وحوادث أشعر هناك أنها اللحمة لما جاءت بسببه، وأدى الكلام عنها إليه، أما هذا فوصف لواقع متماسك الأجزاء.. على أي حال هو نافذة في بيت بعينه إلى ساحة بعينها، اخترت أن أضعها أمام القارئ لتكون لبنة في سجل تاريخ مجتمعنا، آملاً أن تفيد، ولعلها تشجع كل من استطاع أن يمسك القلم ويكتب، أن يفعل ذلك، ويصف لنا حياته وما مرَّ به، ولا أحدد من يجب أن يكتب، ولكني أعتب على كل جامعي أن لا يكتب حياته، فمجلد في رف البيت عن حياة الشخص هو ابن من أبنائه). وعنوان الكتاب جميل جداً وهو: (وسم على أديم الزمن) أي: علامة على جلد الزمان، وقد أردفه المؤلف بعبارة توضح مفهوم العنوان حين قال: (لمحات من الذكريات) وهو يجاري أدباء سعوديين عنونوا لتراجمهم وسيرهم الذاتية بالعناوين التالية: ذكريات طفل وديع للأديب عبدالعزيز الربيع، وذكريات العهود الثلاثة للأديب محمد حسين زيدان، ومن سوانح الذكريات لعلاّمة الجزيرة العربية حمد الجاسر، وحول هذه الذكريات المتناثرة هنا وهناك، ومن منطلق همة المؤلف - حفظه الله - في محاولة جمعها وترتيبها يقول: (يقول المثل العامي: (إذا أردت أن تُحيّره فخيره)، وأنا الآن في هذا الموقف، فأمامي من المواضيع التي لها مساس بذكرياتي: القمح، النخلة، البقرة، الدجاج، ولا أدري بأيها أبدأ، فكل واحد من هذه الأشياء فيه جاذبية، وعلى اعتبار أن الذكريات كانت عن مرحلة الصغر فأقرب الأشياء إلى هذه المرحلة هي الدجاج.. فيحسن أن أبدأ بهذا الموضوع). ومن خلال قراءتي في هذا الكتاب وغيره من كتب المؤلف، تتبدى لي من بين السطور ظاهرة الاستطراد، وهي دليل قوي على عمق وسعة الثقافة، وهي من جانب آخر تُمتع القارئ وتطرد عنه السأم والملالة، وظاهرة الاستطراد تأتي واضحة عند الأدباء الذين صقلوا معارفهم، وغذوا مواهبهم من كتب التراث القديمة، ويأتي على رأس القدماء الجاحظ، وعلى رأس المحدثين الخويطر، ولنترك لأديبنا الفعل عنان الكلام ليقول لنا: (إنني أستسمح القارئ في هذا الاستطراد في الحديث عن الذئاب، وقد حملني عليه ما تعودته عند كتابتي أي بني وكتابتي إطلالة على التراث إذ كنت عندما أبدأ موضوعاً أحاول أن استقصي جوانبه، وما أعرفه عنه، أو ما أجده متصلاً به في المراجع، وكان بعض هذا رغبة مني في إبعاد الملل عن القارئ، والملل يأتي أحياناً بسرعة من جرّاء سرد المعلومات وتواليها، وقد سميت الاستطراد إحماضاً، قياساً على ما يفعل في تعليف الإبل، فهي إذا أكلت الأخضر الرطب اشتاقت إلى اليابس مثل العرفج). وأحس من ثنايا الكتاب أنني مع الجاحظ في كتابه الحيوان، حينما يحكي عجائب الحيوان، ويعرض حقائق ومعلومات كتاب الحيوان لأرسطو على العقل والتجربة، فمن قبله العقل، وصحت به التجربة من حديث الأديب اليوناني القديم أرسطو أخذ الجاحظ به، ومن رفضه العقل ولم تصح به التجربة رده، يقول أديبنا الخويطريّ الجاحظي ما نصه: (اهتم الجاحظ بدراسة حياة الحيوان، وفي كتاب (الحيوان) جمع كل معلوماته عن الحيوانات، وعرض نتائج تجاربه التي أجراها عليها، وخرج بنتائج مذهلة،... والفخر حقيقة للجاحظ الذي سبق اليابانيين وغيرهم، والسبق ليس غريباً على الجاحظ فيما يخص الحيوان وغيره، لأنه عندما يهتم بأمر ينصرف بكل إمكاناته العقلية والجسمية إليه، وهذا هو الذي أمكنه من تأليف كتاب (الحيوان) وهو كتاب ضخم جامع، احتوى على كثير من المعلومات التي جمعها من غيره، ومن مشاهداته الدائبة، وبحوثه الدقيقة، وتجاربه المتواصلة عن الحيوانات والطيور والحشرات). وأخيراً فالكتاب يدل على فكر ناضج، وعقل فائض، وحكمة ونباهة.