قلة من المهتمين بالأدب يعرفون أن النامي كان قامة شعرية شامخة في بلاط سيف الدولة، ولم تكن منزلته لدى أمير حلب أقل من منزلة المتنبي. لكن الأيام طمست اسمه وضاعت روائع آثاره. ولعلي أبين في هذه المقالة جوانب مضيئة من شاعريته كاشفاً عن بعض الأسرار التي أدّت الى خفوت ذكره. وهنا أفتح الباب أمام المهتمين والباحثين لعلهم يعثرون بين المخطوطات المركونة في زوايا المكتبات والمتاحف في العالم على قصائد أخرى للشاعر، اضافة الى ما تضم الموسوعة الشعرية من أعماله. ذكر ابن فورجة في "التجني على ابن جني" قال: ان المتنبي كان على كثرة شعراء سيف الدولة لا يتقي منهم غير أبي العباس أحمد بن محمد المصيصي المعروف بالنامي، وقد عناه بقوله: والمدح لابن أبي الهيجاء تنجده/ بالجاهلية عين العي والخطل/ ليت المدائح تستوفي مناقبه/ فما كليب وأهل الأعصر الأول/ خذ ما تراه ودع شيئاً سمعت به/ في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل. وأراد بالشمس سيف الدولة، وبزحل أباه، فالشمس أبهى الينا من زحل وأبين نوراً وأكثر فضلاً. وقال المعري: "لعل الشاعر أراد نفسه" وأنا أقول كذلك. وكان النامي كثيراً ما يذكر في مدائحه أيام الجاهلية وآباء سيف الدولة الأوائل. وفي المواقف القليلة التي كان المتنبي مضطراً الى مراعاة الجو المحيط به، فكان يتطرق الى مدح آباء سيف الدولة في عدد من القصائد، ومنها السالفة الذكر، لكن ذلك لم يكن اعجاباً بالأيام الخوالي وانما وسيلة للوصول الى ممدوحه، اذ لا يمكن فصل الفروع عن جذع الشجرة وأصولها، كقوله: من تغلب الغالبين الناس منصبه/ ومن عدّي أعادي الجبن والبخل. شاعرية وهّاجة يذكرني النامي بشعراء الحوليات قبل الإسلام، فهو يقف على الأطلال ويتأنى كثيراً في انتقاء صوره وصوغ بيانه. فلنتأمل هذه القصيدة التي لا تعوزها البلاغة: أحقاً أن قاتلتي زرود/ وأن عهودها تلك العهود/ وقفت وقد فقدت الصبر حتى/ تبين موقفي أني الفقيد/ وشكت فيَّ عذالي فقالوا/ لرسم الدار أيكما العميد. وبعد هذه المقدمة التي مزج فيها بين النسيب وتذكر العهود والوقوف على الرسوم وديار الأحبة الخاوية، نراه ينتقل الى مخاطبة سيف الدولة مصوراً طول السفر اليه حتى أصاب الهزال مطاياه فصارت عظامها نحيلة كعيدان الأراك وجلودها التي رقت من طول المشقة وتصببت عرقاً حتى غدت كأوعية الماء واللبن، فيقول: اليك صدعن أفئدة الليالي/ وفيهن السخائم والحقود/ فعيدان الأراك لها عظام/ وأسقية الشنان لها جلود. والشاعر لا يكتفي بذلك، بل نجده يزهو بشعره ويتطاول بقامته فيرفع نفسه فوق شعراء المعلقات مشيراً بلمسات فنية ولمحات جمالية خاطفة الى امرئ القيس ابن حجر وعبيد بن الأبرص ولبيد: وشعرٍ لو عبيد الشعر أصغى/ اليه لظلّ لي عبداً عبيد/ كأن لفكره نشر ابن حجر/ ونودي من حفيرته لبيد. وللنامي أيضاً هذه القصيدة التي يلتمس فيها العون من صاحبيه لمعرفة السبب الذي جعل الحبيبة تنفر من شيبه وتقلب حبه الجميل الى مرارة سوداء وهي التي أودت بشبابه وجعلته يهرم من لوعة المكابدة، كما تكشف لنا عن طول سهاده في غيابها ومدى خبرته بمواقع النجوم وحركاتها وكأنه يرسم من خيوطها الدرية لوحة فنية على صفحة الليل الدكناء: سلاها لم اسودَّ الهوى في ابيضاضه/ وإلا سلاني كيف بُيِّض مسوِّدي/ كأن برأسي عسكرين تحاربا/ فقد كثر استئمان جند الى جند/ وليل له نجم كليل عن السرى/ تحير لا يُهدى لقصد ولا يهدي/ كأني وابن الغمد والطرف أنجم/ عن قصدها والنجم ليس على قصدي/ الى أن رأيت الفجر والنسر خاضب/ جناحيه ورساً عُلَّ بالعنبر الوردي/ وحلت يد الجوزاء عقداً وشاحها/ إزاء الثريا وهي مقطوعة العقد. والنامي هو أحمد بن محمد الدارمي المصيصي من مصيصة الواقعة على ساحل البحر المتوسط قرب طرسوس نسبته الى دارم بن مالك من تميم، كان له مع المتنبي معارضات اقتضاها اجتماعهما في حلب وقربهما من سيف الدولة الحمداني، ولد في سنة ثلاثمئة وتسع، أي بعد ست سنوات من مولد المتنبي الكوفي المولد. نطالع في أخبار الشاعرين ما رواه أبو القاسم علي بن محمد المنجم الرقي، اذ قال: كان جميع أصحاب سيف الدولة يغتاظون من المتنبي ويتعصبون عليه للنامي، فلما عمل في وقعة بني كلاب القصيدة الرائية التي أولها: طوال قناً تطاعنها قصار/ وقطرك في ندى ووغى بحار/ وفيك اذا جنى الجاني أناة/ تظن كرامةً وهي احتقار. ويقول النامي: "كان قد بقي في الشعر زاوية دخلها المتنبي وكنت أشتهي أن أكون سبقته الى معنيين قالهما... ما سبق اليهما، أما أحدهما فقوله: رماني الدهر بالأرزاء حتى/ فؤادي في غشاء من نبال/ فصرت إذا أصابتني سهام/ تكسرت النصال على النصال. والآخر قوله: حتى عبرن بأرسناس سوابحا/ ينشرن فيه عمائم الفرسان/ في محفل ستر العيون غباره/ فكأنما يبصرن بالآذان. بيتان من الدرر النادرة يقول المتنبي: فغادر الهجر ما بيني وبينكم/ يهماء تكذب فيها العين والأذن/ تحبو الرواسم من بعد الرسيم بها/ وتسأل الأرض عن أخفاقها الثفن. ما قرئ هذان البيتان إلا وقفت إجلالاً لهما ولقائلهما، وهما من قصيدة ذائعة الصيت للمتنبي مطلعها: "بم التعلل لا أهل ولا وطن/ ولا نديم ولا كأس ولا سكن". نظمها في مصر وهي من قصائده الخاصة التي لم ينشدها كافوراً، الأثيرة لديه التي ضمنها أساه وصبره وعزمه وشدة بأسه. واليهماء: فلاة ملساء ليس بها نبت. والأيهم: البلدُ الذي لا علم به. والرواسم من الناقة الرسوم وهي التي تؤثر في الأرض من شدة الوطء. والرسيم ضرب من سير الإبل. قال أبو عبيد: فإذا ارتفع السير عن العنق قليلاً فهو التزيُّد، فإذا ارتفع عن ذلك فهو الذميل ثم الرسيم. والثفنة من البعير والناقة: الركبة وأصول أفخاذه. والمراد من البيتين هو: يخبر الذين يخاطبهم أنه قد بعد عن بلادهم، فصار بينه وبينهم يهماء تكذب فيها العين والأذن، لأنها بعيدة الأرجاء. فالعين لا يتبين فيها الشخص على حقيقته، كذلك الأذن ليس سمعها في هذه القفرة بالصحيح. وأن أخاف الإبل قد ذهبت لطول السفر، فثفناتها تسأل الأرض أين ذهبت الأخفاف؟ أما المعني بهذه الأبيات فسيف الدولة الحمداني. وكان الشاعر قد عرّض في قصائده بأنه لن يقيم على الذل ولو كانت حلب الجنة: وما منزل اللذات عندي بمنزل/ إذا لم أبجّل عنده وأُكرم. وكان كما تقول الرواية: انه حضر ذات يوم مجلس سيف الدولة وفيه جماعة من العلماء والفضلاء كأبي الطيب اللغوي وأبي عبدالله بن خالويه النحوي وجرت مسألة في اللغة تكلم فيها ابن خالويه مع أبي الطيب المتنبي فضعّف أبو الطيب قول ابن خالويه فأخرج من كمّه مفتاحاً فضرب به المتنبي فشجّه، وكان ابن خالويه معظماً عند بني حمدان وله عليهم مشيخة فلم يقدم سيف الدولة على الانتصاف لأبي الطيب من ابن خالويه، فغضب أبو الطيب لذلك وكانت من أعظم أسباب فراقه، وذلك في سنة ست وأربعين وثلاثمئة. وكان أول لقاء جمع الأميرين، أمير حلب وأمير الشعر في أنطاكية، في ضيافة أميرها أبي العشائر ابن عم سيف الدولة وآثرهم من بني حمدان لديه، وذلك في سنة سبع وثلاثين وثلاثمئة عندما وقف ينشده قصيدته الذهبية: وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه/ بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه وما أنا إلا عاشق كل عاشق/ أعقُّ خليليه الصفيين لائمه وقد يتزيا بالهوى غير أهله/ ويستصحب الإنسان من لا يلائمه يقول: وفاؤكما بمساعدتي كهذا الربع، فإن الربع كلما درس كان أدعى الى الحزن وكذلك وفاؤكما كلما ضعف وقلّت مساعدتكما لي بالبكاء اشتد حزني لفقد من أتأسى به. وقوله: والدمع أشفاه ساجمه، بيان لعذره في البكاء وحجة على صاحبيه بأنهما خاليان عما هو فيه من الحزن لأنهما لو كانا محزونين لاستشفيا بالدمع كما هو شأن الحزين. وهي من عيون قصائده. ظل المتنبي متعلقاً سيف الدولة بعد مفارقته ولكنه لم يغفر له التفريط به قط. قال أبو الفتح ابن جني: قرأت ديوان المتنبي عليه، فلما بلغت الى قوله في كافور: ألا ليت شعري هل أقول قصيدة/ فلا أشتكي فيها ولا أتعتب/ وبي ما يذود الشعر عني أقله/ ولكن قلبي يا ابنة القوم قُلّب. فقلت: يعز علي... كيف قلت هذا الشعر في غير سيف الدولة؟ فقال: حذرناه، وأنذرناه فلم يسمع، ألم أقل له: أخا الجود أعط الناس ما أنت مالك/ ولا تعطين الناس ما أنا قائل وأضاف قائلاً: لقد أعطاني إياه بسوء تدبيره. بطيء الخاطر اتساءل الآن كيف ذهب النامي وقصيدته الذهبية وبقي المتنبي! والرأي عندي هو الخبر التالي الذي رواه الصفدي في الوافي بالوفيات على لسان الكاتب: قال أبو عبدالله الحسين بن محمد بن الصقر الكاتب: كان أبو العباس النامي بطيء الخاطر ترتفع له القصيدة في سبعة اشهر أو اكثر، وتحدث الحادثة عند سيف الدولة من فتح أو هدية أو قصة أو عيد أو غير ذلك فيعمل الشعراء وينشدونه في الحال أو بعد يوم أو يومين، فاذا كان بعد ثلاثة اشهر أو اربعة أو سبعة أو اكثر بحسب ما ترتفع اليه جاء واستأذنه في الإنشاد فيكايده سيف الدولة ويقول له: في أي فتح وأي قصة؟ ولا يزال به ويريه أنه انسي تلك الحال لبعدها توبيخاً الى ان يكاد يبكي، فيقول: نعم هاتها الآن، وربما اغتاظ لطول العهد وخروج الزمان عن الحد فلا يأذن له أصلاً. قال: وكنت قائماً بين يدي سيف الدولة وقد ولد له ولد قبل ذلك بسبعة اشهر فجاء النامي فاستأذنه في انشاد تهنئة بالمولود، فقال له سيف الدولة: يا أبا العباس الصبي قد حان لنا ان نسلمه الى الكتّاب. فما زال يضرع لنا الى أن أذن له فأنشده. قال: وقال لي النامي كنت البارحة أعمل شعراً فصقع ديك فانقطع خاطري. نصر وهزيمة رحل المتنبي عن حلب وعن سيف الدولة الى غير عودة، وبقي النامي في كنف الأمير وشهد تقوّض دولته، وإليك هذه الحكاية من صفحات التاريخ: وذلك ان نقفورا بن الفقاس الدمستق ويانس بن شمشقيق قصدا مدينة حلب في سنة احدى وخمسين وثلاثمائة. وسيف الدولة بها، وكانت موافاتهما كالكبسة. وقيل: ان عدة رجاله مائتا آلف فارس، وثلاثون آلف راجل بالجواشن، وثلاثون آلف صانع للهدم وتطريق الثلج، واربعة آلاف بغل عليها حسك حديد، يطرحه حول عسكره ليلاً. ولم يشعر سيف الدولة بخبرهم، حتى قربوا منه. فأنفذ اليهم سيف الدولة غلامه نجا في جمهور عسكره، بعد ان اشار عليه ثقاته ونصحاؤه بأن لا يفارق عساكره. فأبى عليهم ومضى نجا بالعسكر الى الاثارب. ثم توجه منها داخلاً الى انطاكية فخالفه عسكر الروم، ووصل الى دلوك، ورحل منها الى تل حامد، ثم الى تبل. واتصل خبره بسيف الدولة فعلم انه لا يطيقه مع بعد جمهور العسكر عنه، فخرج الى ظاهر حلب وجمع الحلبيين وقال لهم: عساكر الروم تصل اليوم، وعسكري قد خالفها، والصواب ان تغلقوا ابواب المدينة، وتحفظوها، وأمضي أنا ألتقي عسكري، وأعود اليكم وأكون من ظاهر البلد، وأنتم من باطنه، فلا يكون دون الظفر بالروم شيء. فأبى عامة الحلبيين وغوغاؤهم، وقالوا: لا تحرمنا ايها الأمير، الجهاد، وقد كان فينا من يعجز عن المسير الى بلد الروم للغزو، وقد قربت علينا المسافة. فلما رأى امتناعهم عليه، قال لهم: اثبتوا فإني معكم .... قصة الشيب والحكاية طويلة تجدها عند ابن العديم في زبدة الحلب، ولكن سأروي لك هذه الطرفة لما آلت اليه حال النامي: قال ابو الخطاب بن عون الحريري: دخلت على ابي العباس النامي فوجدته جالساً ورأسه كالثغامة بياضاً وفيه شعرة واحدة سوداء، قلت له: يا سيدي في رأسك شعرة سوداء، قال: نعم، هذه بقية شبابي وأنا أفرح بها، ولي فيها شعر، قلت: أنشدنيه فأنشدني: رأيت في الرأس شعرة بقيت / سوداء تهوى العيون رؤيتها/ فقلت للبيض اذ تروعها / بالله إلا رحمت غربتها / وقل لبث السوداء في وطن / تكون فيه البيضاء ضرتها. ثم قال: يا أبا الخطاب بيضاء واحدة تروع ألف سوداء، فكيف بسوداء بين ألف بيضاء؟! اما المتنبي فقد كان له مع الشيب رأي آخر، اذ يقول: منى كنَّ لي ان البياض خضاب / فيخفى بتبييض القرون شباب / ليالي عند البيض فوداي بتنة / وفخر وذاك الفخر عندي عاب / فكيف أذم اليوم ما كنت أشتهي / وأدعو بما أشكوه حين أجاب / جلا اللون عن لون هدى كل مسلك / كما انجاب عن ضوء النهار ضباب / وفي الجسم نفس لا تشيب بشيبه / ولو ان ما في الوجه منه حراب / لها ظفر ان كل ظفر أعده / وناب اذا لم يبق في الفم ناب / يغير منى الدهر ما شاء غيرها / وأبلغ اقصى العمر وهي كعاب. بعد ذلك بقي ان نقول ان المتنبي ذهب يفتش عن الموت ويطلبه وهو يعلم انه قد بلغ الغاية من المجد، اذ قال عند مفارقته عضد الدولة بن بويه في آخر شعر قاله: وأنى شئت يا طرقي فكوني / أذاة او نجاة او هلاكا فلقيه الهلاك في طريق عودته من فارس عند دير العاقول وذلك يوم الاربعاء لست بقين، وقيل لليلتين بقيتا من شهر رمضان سنة اربع وخمسين وثلاثمئة، وكان قد ناهز الحادية والخمسين من العمر. وأما النامي فقد مات حتف أنفه في حلب عام ثلاثمئة وتسعة وتسعين وقد اشرف على التسعين. ويمكن ان نضيف الى ما سبق سبباً آخر من اسباب خمود ذكر النامي وهو انه عاش سنواته الاخيرة في مرحلة ضعف الدولة الحمدانية وزوال عزها وسلطانها، بينما لقي المتنبي مصرعه إبان صعود تلك الدولة وازدهارها في عهد سيف الدولة. * شاعر، الأمين العام السابق للمجمع الثقافي، أبو ظبي. والمقالة مقاطع من دراسة طويلة.