عرفت تونس بالخضراء نظرا الى طبيعتها الغناء المكتسية بالخضرة الدائمة بسبب انتشار غابات الزيتون والأشجار المثمرة في غالبية مساحتها. فلقد ساعد مناخ تونس المتوسطي المعتدل في تحويلها الى ارض خصبة لشتى صنوف الزراعات والى شيوع التقاليد الزراعية منذ فترات مبكرة من التاريخ. وهو الأمر الذي ادى بدوره الى ظهور التمدن في البلاد التونسية باكرا. مما جعل من تونس مهدا لتعاقب حضارات كثيرة ومتنوعة اغنت الى حد كبير الرصيد التاريخي لهذه البلاد. وهكذا جاء ذكر تونس وطبيعتها الخضراء في كتب التاريخ والرحلات والسير وفي قصائد الشعراء وإلياذاتهم. فغدت لذلك حديث الناس وحلم السامعين وأنس الزائرين. عرفت تونس قديما بإفريقية ومملكة قرطاج، الى غير ذلك من الأسماء وقد اطلقت هذه الاسماء على الارض الممتدة بين ليبيا والجزائر، حيث تحدها ليبيا شرقا والجزائر غربا والبحر الابيض المتوسط شمالاً. في حين تلتقي الحدود الليبية والجزائر في الجنوب من تونس جاعلة من الجنوب التونسي شبه لسان صحراوي مدبب. وتعد تونس صغيرة من حيث المساحة، حيث لا تتجاوز 155.162 كلم2. ولقد كانت تونس كما أسلفنا مهدا لأزخر واعظم الحضارات في الجزء الشمالي من القارة الافريقية في جانبه الاوسط حيث وصلت الاساطيل الفينيقية التجارية الى البلاد التونسية فاستوطن بعضهم بها ثم تأسست امبراطورية قرطاج في سنة 814 قبل الميلاد على يد الملكة عليسة. فشيدت حضارة كبيرة من طرف الملوك القرطاجيين ما زالت آثارها بادية حتى الآن وكانت للقادة القرطاجيين ايام سجالية في الغزو مع ملوك روما ،النظيرة الضدية لقرطاج في الضفة الشمالية من البحر الابيض المتوسط. وقد انتهت المساجلات بين الرومانيينوالقرطاجيين الى سقوط قرطاج في أواسط القرن الثاني قبل الميلاد ولتتحكم روما منذ ذلك الوقت في مصير افريقية التونسية وتحولها الى ولاية من ولاياتها بل ولتجعل منها سلة لغذائها. وبلغ ازدهار العمران والزراعة في تونس حدا جعلها تعرف باسم «مطمورة روما» وقد دام الحكم الرومانيلتونس في القرنين الخامس والسادس تاركا مكانه للفندال والبيزنطيين وليدخل الفتح العربي الإسلامي الى افريقية التونسية في القرن السابع الميلادي فاتحا بذلك حقبة تاريخية جديدة تحمل نوعا جديدا من الممارسة الدينية والثقافية والحضارية ظل هو المهيمن حتى يومنا هذا. وقد جاء الفتح الإسلامي ليزيد من المكانة المحورية للبلاد التونسية في الجانب الاوسط من الضفة الجنوبية للمتوسط وهي المكانة التي امتدت تأثيراتها الى الضفة الشمالية وذلك عندما جعل الفاتحون العرب من البلاد التونسية ومن القيروان بالذات عاصمة لدولتهم في الشمال الافريقي وليجعلوا منها منطلقا لفتوحاتهم في المغرب الاقصى والاندلس وكذلك في بلاد السودان وجنوب الصحراء الكبرى. وقد اتسم الدور الذي لعبته القيروان كعاصمة للغرب الاسلامي ايام الأمويين وبداية العهد العباسي، وكذلك ايام الاغالبة، بالمحورية من حيث فعل نخبتها في صياغة ملامح المنظومة الثقافية العربية الإسلامية في بلاد المغرب والاندلس وذلك في كل الابعاد المشكلة لهذه المنظومة خصوصاً في جانبيها الفقهي والعقدي. اذ تصدر أعلام من النخبة القيروانية في صياغة وبلورة المذهب المالكي والذود عنه ونشره في باقي أقاليم المغرب والاندلس. ولئن كانت القيروان قد تعرضت ومن ورائها تونس لتعاقب الحملات والدول المختلفة ابتداء من سقوط دولة الاغالبة على يد الفاطميين، فإن البعض يرى ان ابشع حملة تعرضت لها القيروان، انما كانت على يد القبائل الهلالية التي احتلتها ودمرتها في منتصف القرن الخامس الهجري، وإن كان يحمد لهذه الحملة تعريبها للسان في هذا الجزء من العالم العربي. ولقد انتهى دور القيروان كعاصمة سياسية لإفريقية والغرب على يد عبيدالله المهدي مؤسس الدولة الفاطمية «ت 322ه» الذي اتخذ من رقادة في ضواحي القيروان عاصمة لملكه ثم هجرها بعد ذلك واختط المهدية البعيدة عنها نحو 60 كلم على الساحل المتوسطي كعاصمة له، ولتنتقل منها السلطة السياسية المتحكمة بعد ذلك الى تونس «العاصمة الحالية» وتتخذ منها عاصمة للبلاد التونسية كما هو الحال مع الحفصيين 627ه والاتراك بعدهم وكذلك أثناء الفترة الاستعمارية وليترسخ ذلك باعتبار تونس عاصمة مركزية وأبدية للدولة الوطنية التونسية الحديثة. وعموماً فإن ميراث القرون بين انبعاث مملكة قرطاج بضواحي تونس العاصمة الحالية في القرن التاسع قبل الميلاد وقيام الدولة التونسية الحديثة مرورا بالعهد الروماني والبربري والعهود الإسلامية المتعاقبة، كل ذلك انما اثرى في الرصيد الحضاري للبلاد التونسية وجعل منها حلقة رئيسية في سلسلة حضارات حوض المتوسط وجعل من سكانها شعبا يختزل كل هذه التجارب الحضارية والتاريخية لإنسان المتوسط الخلاق. ولئن كان من الصعب الاختيار بين المعالم التاريخية الكثيرة التي تعج بها البلاد التونسية لتخصيص بعضها دون الآخر كموضوع للكتابة حول تونس، فإننا سنختار معلمين اثنين في التاريخ الاسلامي للبلاد التونسية، ألا وهما جامع عقبة بن نافع بالقيروان وجامع الزيتونة بتونس العاصمة، وسنبين كيف ان هذين الجامعين قد كان لهما على مر التاريخ القدرة الكاملة على مد التاريخ الديني والسياسي للبلاد التونسية بالديناميكية اللازمة لسيرورته، وللحديث عنهما سوف نبدأ بجامع عقبة بالقيروان باعتباره الأعتق والأسبق الى الفعل التاريخي نظرا لاحتضانه والقيروان من خلاله للتفاعلات الدينية والسياسية الأولى التي شهدتها افريقية التونسية. وللحديث بقية.