جلست أتأمل وأتفكر في قصص السلف.. أغوص بالذاكرة مع سير الغابرين سواء كانوا أفراداً كانت لهم صولات وجولات. ويشار إليهم بالبنان. أو أقواما رحلوا بعد أن عمروا الأرض وسادوا.. فرأيت الموت قد تخطفهم وسيوف المنايا قد أفنتهم فغدوا هشيما تذروه الرياح، إلا من رحم ربي. صاروا من بقايا الأمس فبادوا بعد أن ملكوا الأرض وسادوا.. فذرفت عيناي أدمعاً وأنا أقلب الذاكرة.. وتألم الفؤاد ألما وأنا ما زلت أتصفح أحوال وقصص الماضين.. وبعين ذابلة قد غشاها الدمع وخالجها الدم.. نظرت إلى حالي.. وإلى أم أولادي إلى أولادي فلذات كبدي.. فمر أمام عيني شريط الرحيل القادم عاجلا أو آجلا لا محالة.. فبدأ يعلن الأسئلة ويعرض الاستفسارات.. ويرمي علامات الاستفهام التي تبحث عن اجابة شافية ودواء كاف.. يطفئ اللهيب المتأجج ويريح الضمير المتألم الذي قد أنهكته المواجح.. ان الفكر لدي مضطرب، والقلب يئن من شدة وطأة الرحيل الآتي الذي لا ريب فيه.. إنه الموت. تنبه قبل الموت إن كنت تعقل فعما قليل للمقابر تنقل ... إن هادم اللذات يسيطر على جميع جوارحي وداخل أغوار عقلي.. فماذا أعمل؟ وما هو الزاد الذي يعنني بعون الله عندما يداهمني؟ وبماذا استعدت لمقابلته؟ ماذا قدمت من عمل يسر العين ان تراه؟ انني الآن في رغد من العيش وراحة ولله الحمد والمنة.. وغداً أو بعد غد لا أعلم.. الله هو الذي يعلم وحده من الذي سوف يرحل من عائلتي أولاً؟ هل هو أنا؟ أم هي؟ أم هم...؟ يا الله رحمتك... الموت باب وكل الناس داخله فليت شعري بعد الباب ما الدار من الذي سوف تتخطفه الملائكة فجأة؟ من الذي سوف يزوره ملك الموت بغتة؟ من الذي سوف يوادع ويرحل عن الدنيا عنوة من الذي سيأفل نجمه ويترك وراءه الدار والأهل والمال والعشيرة من ذا الذي سيبكي ويجأر على فقدان الآخر.. من الذي سيبز من الأحياء ويلملم رفاته، ويسرع الخطى لتجهيزه وغسله وتكفينه.. ثم يصلي عليه صلاة لا ركوع لها ولا سجود ثم يشمر عن ساعديه ليحمله في نعشه فوق الاعناق في عجلة من أمره ذاهبا به إلى المقبرة لكي يتخلص منه ويدفنه ويهل عليه التراب.. ويتركه هناك في ظلمة القبر ووحشته.. هناك في اللحد في مراتع الدود.. وحيداً.. غريباً.. ذليلاً لا أم هناك ولا أب.. في ظلمة القبر لا أمك هناك ولا أب شفيق ولا أخ يؤنسني هناك في المسكن الذي سوف يقطنه كل واحد من الأحياء.. كما قطنه السابقون.. وقبعوا فيه.. هناك في القبر الذي ظاهره سكون واجم وصمت مطبق وباطنه إما نعيم قائم أو عذاب سائم.. إما يكون روضة من رياض الجنة أو يكون حفرة من حفر النيران.. لا إله إلا الله.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.. زخم من الأسئلة بدأت على مخيلتي تترى فمن الذي سوف يغدق الشؤون برحيل وفراق.. من كان غال عليه ويعز عليه فقدانه.. من الذي سيطول به الأمد فيتذكر من حين لآخر الأيام الماضية واللحظات السعيدة الغابرة.. وعند ذلك هل سيرسل الزفرات.. ويطلق الآهات الحبيسة أم تمر عليه تلك الذكريات مرور الانعام ولا توقع في قلبه آهة حرّى.. إن الدنيا.. هذه لا يبلغ المرء أمله فيها ويكتفي بالبتة.. بل انه يواصل الكد والكفاح.. ويناضل .. ويعمل دؤوبا لا يكل ولا يمل يجوب القفار ويمخر العباب ويرتقي هام السحاب من اجل تحقيق مأرب النفس ومبتغاها.. التي لا تشبع بل تسعى في طرد الشهوات والملذات والآمال العريضة والأحلام العديدة.. والتي بطبيعة الحال لن تحققها جملة بالبتة لأن النفس إذا نالت أملا وحلما كانت تتوق إليه سعت وتاقت لأمل وحلم آخر وهكذا ديدنها.. نؤمل آمالا ونرجو نتاجها وعل الردى مما نرجيه اقرب ونبني القصور المشمخرات في الهوى وفي علمنا أنا نموت وتخرب فيا للعجب.. ولم العجب.. فالله قال ذلك في كتابه المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، )ولقد خلقنا الإنسان في كبد( فالمحظوظ هنالك.. من خطفه ملك الموت وهو لم ينجرف مع الهوى بل تسلح بسلاح التقوى وتمسك بغرز العروة الوثقى ان السعيد هو من اتبع جادة الحق ولم يحيد عنها قيد أنملة.. وجاءه ملك الموت وقبض روحه وهو على هذا الحال السوي )إن المتقين في جنات ونهر( والشقي من أدركه هاذم اللذات وهو على الذنوب مواصل وفي مستنقعات الضياع والغفلة لاه.. قد أعرض عن الحق وصد عن الهدى.. وانشغل بطول الأمل فاستفرد به الشيطان وأغواه فأودى به في تيارات المعاصي ورمى به في مستنقعات الخطايا والذنوب... وجعله يستأنس بملذات الغي والانحراف في دهاليز التيه واللهو والضياع لا يأبه بوعيد ولا يخاف من تهديد ولم يرعو )فالويل لمن عرف مرارة الجزاء الدائم ثم آثر لذة المعصية لحظة( إنه لشتان ما بين نهاية السعيد ونهاية الشقي.. فالسعداء يومئذ في جنات ونهر، والاشقياء في جحيم وسعر.. السعداء نهايتهم سعيدة.. )يأتونهم ملائكة بيض الوجوه يتقدمهم ملك الموت عليه السلام فيخاطب تلك الروح الطيبة: )ياأيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان ورب راض غير غضبان فتخرج روحه تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء وتفتح لها أبواب السماء، فتحمل الجنازة على الاكتاف وهي تصيح وتقول قدموني قدموني.. فتسأل في القبر فيثبتها الله عند السؤال لقوله تعالى )يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة( فيفرش لها من الجنة ويفتح لها باب إلى الجنة. والأشقياء نهايتهم سيئة فريق حسب الحياة فقط لعب ولهو وعبث فآثروا الحياة الدنيا على الآخرة وغفلوا عن الأهم الذي من أجله خلقهم الله في تلك الساعة المصيرية حال ذلك الفريق بئس الحال فحاله في شقاء وندم وعناء.. )تنزل عليهم ملائكة سود الوجوه يتقدمهم ملك الموت فيقول: ياأيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب فتنزع روحه نزعا بعد ان تفرق في الجسد تنزع كما ينزع الشوك من الصوف المبلول ثم ترفع فلا تفتح لها أبواب السماء فتلقى إلى الأرض.. تحمل الجنازة على الأكتاف وهي تصيح وتقول: ياويلها! أين تذهبون بها؟ ثم تسأل فلا تجيب ويكون ردها.. هاه.. هاه.. لا أدري فيفرش لها من النار ويفتح لها باب إلى النار(.. أجارنا الله واياكم من النار وسوء الخاتمة فهذه نهاية الأشقياء الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم الذين لم يراقبوا الله ولم يخافوه الذين غفلوا عن الصلاة فكان مصيرهم إلى سقر... )ما سلككم في سقر قالوا لم نكُ من المصلين( الذين لم يتعظوا ولم يخافوا من النار.. )كلا إنها لظى نزاعة للشوى تدعو من أدبر وتولى( فكان مصيرهم إلى جهنم التي )لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر عليها تسعة عشر( فاللهم اجعلنا من السعداء في الدنيا والآخرة.. إن العاقل من تدبر واتعظ وتفكر في الامم التي كانت ثم هلكت وكأنه لم يقم لها قائمة فصاروا أثراً بعد عين وعرف ان هذه الدنيا ممر ومحطة عبور من الحياة الفانية إلى الحياة الباقية.. حكم المنية في البرية جار ما هذه الدنيا بدار قرار هذه الدنيا التي )إن أضحكت قليلا أبكت كثيراً، وإن سرت يوماً ساءت دهراً، وإن متعت قليلاً منعت طويلاً، ،ما ملأت داراً خيرة إلا ملأتها عبرة، ،لا سرته بيوم سرور إلا خبأت له يوم شرور(. إن الكيس من تزود للحظات الاحتضار المفزعة.. وتغرغر الروح المفجعة لأن في هذه اللحظة.. ما الله أعلم به من هموم وغموم وويلات وحسرات وثبور ما يحس بها ولا يشعر إلا من قربت نهايته وأزف رحيله ودنا أجله ومصيره هنيهات مذهلة فيها ينتقل المرء من دنيا الغرور إلى عالم السرور أو الشرور.. إلى نعيم مقيم أو نار وجحيم.. إلى روح وريحان أو خذل وخسران.. لحظات عصيبة ومواقف رهيبة لا ينفع فيها إلا ما سلف من عمل صالح.. في هذه اللحظة يود المرء لو يعود هنيهة لكي يعمل ويتدارك ما فات.. ويصدق في اخباته وانابته ويقدم من الأعمال الصالحة والخالصة لله عز وجل لشدة يقينه بالموت وسكرته وتخيله للقبر وضمته. وصدق الله عندما قال: )حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون( الله أكبر.. الله أكبر.. لا إله إلا الله.. نعم فلقد جفت الأقلام وطويت الصحف بأمر رب العزة والجلال لأن هذا هو الواقع الذي لا مفر منه.. هذا أكبر حقيقة.. وأي حقيقة )إنه الموت نهاية كل حي لا يفلت منه أحد ولا يسبق فيفوته أحد(.. فيا من غفل عن العمل وغره طول الأمل بادر بالتوبة الآن ولا تكن من المسوفين.. نسأل الله لنا ولك ولجميع المسلمين حسن الخاتمة.