وفي هذا السياق أحس أن العمل الروائي والقصصي ونقدهما في هذه المرحلة يكادان يهمشان، إذا قيس حضورهما بحضور الإبداع الشعري ونقده، فسلطان الشعر حال دون عمل نقدي روائي يكشف عن نقاط الضعف ومواطن القوة، ويحفز المبدعين على مراجعة أعمالهم، في سبيل البحث عن الأفضل، لهذا لانجد أعمالاً نقدية مواكبة لهذا الكم من الروايات ولهذا العدد من الروائيين. وبقدر وجود مغامرين آنسوا من أنفسهم قدرة على الكتابة حفزتهم على تجريب أقلامهم في كتابة كلام يقترب من الرواية أو القصة ثم لا يكونهما، نجد أن نقادا هم الآخرون آنسوا من أنفسهم قدرة على النقد الروائي فجربوا أقلامهم في ذلك العمل الروائي ينجزه المقتدر والمبدع، ثم لا يكون نقدهم مصيبا المحز، والعبرة في استكمال الفنيات بطريقة عفوية، وهو مالا نجده في أعمال كثيرة يعدها النقاد المالئون من العمل الروائى الممتاز، وتلك تواضعات تعرض المخالفين لمواجهات سجالية، وتعرض المتلقي للغرر. والحركة النقدية كما أشرت، لم تكن بمستوى حركة النقد الشعري، لا من حيث الكم، ولا من حيث الكيف، وممن ألموا بالنقد السردي ثم ولوا وجوههم شطر الشعر، وكانت لهم إلمامات عازمة وأخرى دون ذلك. الدكتورسعد البازعي، وسعيد السريحي، وصالح الأشقر، وعابد خزندار، ومعجب الزهراني، وعبدالله أحمد شباط، وعالي سرحان القرشي، وخالد المحاميد، وأحمد عبدالله النعمي ولبعض أولئك إلمام جيد بأصول النقد الروائي، ولكن انصرافهم إلى مجالات أخرى حرم المشهد الأدبي من فريق عمل نقدي كان يمكن أن يكون له شأن لا يستهان به، وزامن أولئك أو جاء من بعدهم آخرون تقحموا تلك المهايع بمعاضدة من أساتذتهم، بحيث جاءت دراساتهم على شكل رسائل علمية، ومثل هؤلاء اعتمدوا الخطط والمناهج واستمدوا من تجارب الآخرين، وقد يقولون النقد بمفهومه الصحيح، ولكنهم لمَّا يتجاوزوا مرحلة التجريب، وهم في التجريب متفاوتون إذ عند بعضهم استعداد ورغبة، وعند آخرين تكلف وإكراه، والكل أنجز عمله. وممن اتخذ هذا السبيل عبدالله الحيدري وحسن الجازمي ومعجب العدواني وحصة الحارثي وعائشة الحكمي وآخرون وأخريات سنعرض لهم بالتلميح أوبالتصريح. درس الحيدري وعائشة الحكمي السيرة الذاتية، ودرس الحازمي البطل في الرواية السعودية، ودرس العدواني التناص عند رجاء عالم، ودرست الحارثية القصة دراسة موضوعية. والمقالات النقدية التي كتبها المجربون تتفاوت في إمكانياتها ومستوياتها تبعاً لتفاوت النقاد، ولكنها بمجموعها تشكل حركة نقدية متى أضيفت إلى أعمال نقدية عميقة وشاملة نهض بها أكاديميون متخصصون أو متفرغون لهذه الأعمال النقدية. وهي أعمال أكاديمية جادة بدأت عند الدكتور منصور الحازمي، والدكتورمحمد الشامخ، والدكتورالمقيم في المملكة منذ أكثر من عشرين عاماً محمد بن صالح الشنطي، ومن قبل هذا د/ بكري الشيخ أمين، ومحمود رداوي الذي درس القصة في المملكة والخليج العربي. ومن بعد أولئك الدكتور سلطان القحطاني الذي تخصص في النقد الروائي، وكانت له آراء جريئة حيث نفى الموهبة عن كثير ممن يعدون أنفسهم روائيين، وهذا اللون من المكاشفة تتطلبه مرحلة غارقة في المجاملة. وممن درسوا الإبداع الروائي والقصص في المملكة الدكتور طلعت صبح، ومحمد بن سعد بن حسين، ومسعد عيد العطوي، وسحمي الهاجري، ونصر عباس وهو الأكثر والأدق والأقرب إلى النقد السردي وجريد منصوري، وعبدالله صالح العريني درس الإبدع الروائي العربي ولما يمتد قلمه إلى العمل الروائي السعودي، وأبدع فيه، وفاضل السباعي، ومختار الكسار، ويوسف نوفل، وأحمد باقازي، وحصة الحارثي التي درست الاتجاه الواقعي في القصة القصيرة في المملكة، ولم تنشر عملها. وهؤلاء خليط من المتخصصين والمتطوعين والمستعرضين والمجاملين، ولكنهم مارسوا النقد السردي، كتبوا المقالات، وألفوا الدراسات، ومع هذه الكثرة وذلك التعدد، ننظر إلى نصيب الشعر من الدارسين، ثم لانجد ما يقاربه في حقل الدراسات الروائية. وهذا الإحجام بطأ في استدراك النقص العارض للإبداع الروائي في البلاد، وأحسب أننا حتى اللحظة لانجد أعمالاً نقدية للرواية تضارع الأعمال النقدية للشعر. وسنظل هكذا حتى يتأكد لنا أن الزمن زمن الرواية، لا على طريقة الحداثيين، ممن يصدق على مقاصدهم الإفساد عن طريق الرواية. على أن المؤسسات الثقافية في الوطن العربي تنبهت لذلك، وبادرت في استدبار الشعر واستقبال الأعمال القصصية والروائية. لقد حظي النقد الروائي في الوطن العربي براود من النقاد من أمثال: عبدالمحسن بدر، والسيد النساح، وشفيع السيد، ومحمد حسن عبدالله، وطه وادي، وأحمد هيكل، وإبراهيم السعافين، وأحمد إبراهيم الهواري، وعبدالفتاح عثمان، ومحمد زغلول سلام، ومحمود الربيعي، والرشيد بو شعيرة، ومراد عبدالرحمن مبروك، ونبيلة إبراهيم، ورشاد رشدي. وحميد الحمداني، وسعيد يقطين. حتى أن الحركة النقدية اتخذت مسارات متعددة وتنازعتها تيارات فكرية وفنية متنوعة، وكان لتفاوتها وتحولاتها الدلالية والفنية الأثر الواضح في تحول المبدعين في الشكل والبناء والموضوع، على أنه قد عرض لبعض أولئك اندفاع غير محسوب وراء المستجدات في كل الأبعاد الفنية والدلالية، مما عكس الأثر السييء على مجمل حركة النقد الروائى، حيث امتدت المواطأة إلى تبرير السقوط الأخلاقي وشرعته برمزية الصراع الحضاري، وقد أعددت دراسة موسعة حول هذا الموضوع متخذاً دراسة الدكتور عبدالفتاح عثمان مجالاً تطبيقاً. ولا ستيفاء الحركة النقدية حول الرواية بإمكان المتابع مراجعة كتاب )مصادر نقد الرواية في الأدب العربي الحديث في مصر( وكتاب)نقد الرواية في الأدب العربي الحديث بمصر( للدكتور أحمد الهواري، وإن كان جل اهتمامه منصباً على الأعمال النقدية حول الرواية المصرية. وكم كان بودي تناول الحركة النقدية للرواية في المملكة كي يتحقق التقويم والتوجيه في آن، وبخاصة الدراسات الأكاديمية التي تناولت بعض الظواهر السردية من طلبة الدراسات العليا، وهي كثيرة ومتقصية، وكان بودي لو أن الدراسات النقدية وعت أنواع السرد ووفت كل نوع ما هو أهل له، فهناك)أدب الرحلات( و)السيرة الذاتية( و)المذكرات(و)الذكريات( و )اليوميات( و)المسرحيات السردية( و)قصص الأطفال( إضافة إلى الأهم وهو الفن الروائي والقصصي. وبصرف النظر عن مواكبة النقد للأعمال الروائية، وتقصيه لأنواع السرد واستكمال كل نوع لمتطلباته الفنية، فإن هناك مبدعين تجاوزوا مرحلتهم بما توفروا عليه من إمكانيات إبداعية وثقافية، بحيث جاءت أعمالهم منفصلة عن السياق الأدائي لمشهدهم، وقد كان التجاوز فنياً أو مضمونياً أو شكلياً أو بها معاً، وقد يبدو التمرد على الشرط الفني بوعي لهذا التحدي أو بدون وعي، إذ نجد لبعض الروائيين تجاوزات فنية أو دلالية ليست على شيء من الاقتدار والتمكن، وإنما هي أصداء للتجاوزات التي مارسها بعض الروائيين العرب، وباركها المتسرعون من النقاد ، وإذ نجد بعض المبررات لطائفة من الروائيين الذين استشرفوا المستجد، وأتقنوا اسلوب التجاوز، لا نرى مثله لمن هم دون ذلك من السرعان الذين لا يملكون موهبة ولا ثقافة، ممن يتعجلون الانتاج، ويتخففون من عناء المتابعة. فالتجاوز له دواعيه وآلياته، ومبادرة التجديد ليست من السهولة بحيث يأخذ بها من لم يزل في أبجديات الإبداع، كما أن التجديد ليس مجرد المغايرة للسائد وتقليد الوافد، إنه شيء آخر لا يفقهه إلا الأقلون. ومن المبادرات غير الرشيدة في نظري على الأقل الخروج المطلق على الشرط الفني والاقتصار على الخاطرة والاعتماد على دعوى الحركة الداخلية، وتتسم بعض أعمال جار الله الحميد الأخيرة وبعض أعمال محمد منصور الشقحاء بهذه التجاوزات، وولعهم بمعطيات الحداثة الفنية حملتهم على الاندفاع السريع، وحين أخص الحداثة الفنية فإنما أود التفريق بينها وبين الحداثة الفكرية، وللحداثة الفنية فعلها في العمل الروائي الذي لا يقل عن فعلها في الشعر، وقد وقفت على دراسات حول ما تركته الحداثة في القصة والرواية في الوطن العربي، ومع ما يتمتع به الحميد والشقحاء من موهبة قصصية، إلا أنهما بهذه المغامرة كادا يفوتان على المشهد القصصي والروائي ما يجب توفره كحد أدنى من الشرط الفني والبعد الدلالي، وتجربتهما التي توصف بالمغامرة لن تحظى بالقبول لأنها خروج لا على السائد وحسب، بل على الشرط الفني الذي يمنع العمل سمة الرواية أو القصة. والذي أود وعيه واستحضاره أثناء التحرف للمغايرة وضرب السائد التحول في سبيل الأفضل وفي سبيل الاستجابة لذائقة الأمة وحاجاتها المعاصرة، والذين يستجيبون لبوارق التجديد قد لا يتوفر لديهم هذا الوعي وذلك الاستحضار، ومن ثم يعرضون أنفسهم للانقطاع. ومن مقترفات مرحلة الانطلاق الجرأة على المغايرة والمغامرة ومعاضدة النقاد لهذا التجريب الذي فوت على المشهد مصالح كثيرة. وإشكالية العمل الروائى أنه سردي، ومن اليسير جداً ممارسة الكتابة الروائية، ولكن من الصعب أن ترقى مثل هذه الممارسات الكتابية إلى مستوى العمل الروائي المتميز عن سائر فنون النثر. والأعجب من كل ذلك أن طائفة من الكتاب يعدون أنفسهم روائيين بمجرد أنهم كتبوا كلاماً حوارياً يشتمل على أحداث وظروف زمانية ومكانية بوصف ذلك من سمات العمل الروائي، وأود هنا أن أنبه إلى أن الوزن والقافية، وإن جاءا مشيران لشرط الشعر لا يمنحان الكلام صفة الشعرية، فالشعرية شيء آخر لايوفرها الوزن والقافية، إنها سر كامن في القول ومنبعث من اللغة وبنائها وعلاقاتها، يدل عليه الوزن والتقفية، ولا يكونان إياه. إذاً فالشخصيات والحوار والزمان والمكان والأحداث تدل على العمل الروائي ولاتكون بالضرورة عملاً روائياً . ذلك شئ أكاد أراهن عليه، وقد لقيت بسببه نصباً من أناس يتعاضدون ولا يحسنون إلا مهنة التنافخ، إن الاقتدار شيء آخر غير الموهبة، وإشكالية النقد عندنا أنه لا يضع في تصوره الإمكانيتين الموهبة والاقتدار، بحيث يستطيع أن يفرق بين المبدعين الذين تلمس في إبداعهم حقيقة الإبداع، والمقتدرين الذين تلمس في كتاباتهم ملامح الاقتدار، فالروائيون عبدالله باخشوين وعبده خال وجارالله الحميد، ومن قبلهم محمد علوان وعبد العزيز مشري روائيون بالموهبة، وإن اختلفنا معهم في بعض الأمور، وآخرون ألمحنا إلى بعضهم يملكون القدرة على الكتابة، ولا ينطوون على الموهبة، ومع ذلك يجدون من النقاد الممالئين من يمنحهم صفات التميز. ومما أعايشه وأتأذى منه في المشهد الثقافي عامة والمشهد الإبداعي والنقدي على وجه الخصوص على المستويين المحلي والعربي أن الغالبية من النقاد لايدركون مفهوم التجديد ومقتضياته وحيثياته، والتجديد شيء آخر غير المغايرة الشكلية أو الدلالية، وغير تلقي مستجدات الغرب، إنه تحفز ذاتي يجده المبدع في نفسه، وهو محصلة معايشة واعية للمقروء والمشاهد،واستجابة طواعية لمتطلبات الذائقة التي تتغير مع الزمن. والذي نراه ليس إفرازاً لهذه الحيثيات، إنه انتقال ساذج من تقليد القديم العربي إلى تقليد الحديث الغربي، فالغرب له رؤيته، وله تطلعاته، وله مجتمعه الذي يقتضي تحويلاً وتبديلاً، الغرب عالم متغير ليست له ثوابت، وليست له مقدسات، وليس له تاريخ ، وليس له ثبوت لغوي، ومن ثم فهو في سياق مستمر مع التحول، يمشي على نظرية، ويصبح على أخرى، ومتى أخذ المبدع العربي بما أخذ به المبدع الغربي أو تبنى الناقد العربي ما يتداوله المشهد النقدي الغربي دون أن يكون هذا الأخذ وذلك التبني واعياً ومطلوباً جاء العمل تقليدياً ليس غير، ولايجوز بحال أن نطلق على مثل هذا العمل سمة التجديد، إذ التجديد شيء آخر غير المحاكاة والاستلاب، والمشهد الثقافي يقع في الوهم، بحيث يرى أن مطلق المغايرة للقديم تجديد. ولعنا نشير إلى قضية أخرى ليست بأقل أهمية من سوابقها، تلك هي الاستخفاف بالشرط الفني لكل نوع من أنواع الفنون، والشرط الفني ليس رأياً رآه ناقد، وإنما هو اكتشاف ينطوي عليه الأنموذج، رصده المتابع. فالقصيدة العربية جاءت على شكل وبناء، والراصدون لمواصفاتها لم ينشئوا شروطها إنشاءً، وإنما اكتشفوها، مثلما اكتشف الخليل بن أحمد بحور الشعر، فصار عند المتسرعين سلطوياً، قيد الملكات، وعطل الحريات، والخليل لايعدو كونه مستقرئاً ذكياً، ويقال مثل ذلك عن منظري بقية الفنون، كالرواية والقصة والسيرة الفنية، ومن المؤسف أن نقاد الإبداع السردي بكل أنواعه في المشهد المحلي والعربي يقعون في المحذور، وينالون من المتسقرئين، ويصفونهم بالوصاية والسلطوية، ويحرضون على التمرد عليهم وانتزاع زمام المبادرة منهم، وكأن النقد سلطة رادعة تمارس الفوقية على المشهد الثقافي. وما كان الناقد الحق إلا قارئاً وصفياً، أو قارئاً رديفاً كما المبدع، أو قارئاً وسيطاً يحاول التوفيق بين المنتج والمتلقى. وهي مهمة قد تضطر الوسيط إلى المساءلة والتقويم، وذلك حق مشروع، فالمتلقي يتيح بطوعه واختياره للمبدع أن يسهم في تشكيل وعيه ونسيج ثقافته، ومن حقه أن يمتحن الرسالة، ويستوثق من أهميتها، ومن ثم تقوم جدلية القبول والرفض والتعديل، الأمر الذي قد يصعد الخلاف بين شريكين في انتاج العمل الإبداعي، وبوصف الناقد مبدعاً رديفاً، وأياً ما كان الأمر فإن شقي المدخل الذي نحن بصدد تحريره:) الإبداع( و)النقد( تطاله تلك المحاذير، وقد حاولنا تمرير ملاحظاتنا في ثنايا الرصد التاريخي والوصفي والتحليلي، ولم نشأ أن نقتصر على أحادية المنهج، ففي ذلك تحجيز لواسع، وأحسبني بحاجة إلى التأكيد على أن تلك المحاذير لم تكن من نصيب مشهدنا المحلي وحده، وليس من المتوقع تلافيها بالقدر المؤمل، ولكن الراصد من واجبه استعراضها لكي يكون أميناً في تتبع الابداع القصصي والروائي في المملكة، وأملي كبير أن توضع تحفظاتي تلك في موقعها الطبعي، وأن يتقصى المعارضون والموافقون ملامح المشهد المحلي، ولا تكون رؤيتهم التعقيبية مجرد اهتياج عاطفي، لا يستصحب الوثائق والشواهد، وإذ أحترم الرأي المعارض، وأرى أحقيته في المثول فإنني أتمنى أن أمنح القدر المماثل من الحق.