في السنوات الأولى من ظهور تيار الحداثة، كان الحوار والرهان بين الناقد والمبدع سجالاً، فيه نوع من التحدي، وكان من بين النصوص الأدبية التي راهن على تطورها النقاد، النص القصصي. تعمدت أن يكون البدء في التجليات في هذه المرحلة -التي كان الرهان فيها على الإبداع بكل ألوانه وأطيافه- حاداً ومحفزاً. في تلك المرحلة، كان لابد من تشكيل حضور مبهر، بإبداع سردي يُراهن عليه، ويكون مستفزاً للنقاد! وهي مرحلة ولدت فيها القصة القصيرة المتميزة والمختلفة في الأدب السعودي. كانت البداية لتجليات النص القصصي المختلف، مع ظهور تيار الحداثة. لا أستغرب حين قالوا إن معاصري ما بعد الحداثة، يروجون لموت القصة القصيرة! لأنه يعني ولادة جيل جديد ومرحلة جديدة مختلفة للسرد. أذكر تلك الليلة ذات مساء في نادي جدة الأدبي، كنا ثلاثة ممن أخذتهم سكرة التجليات، ووقعوا تحت تأثير سحر النص الحداثي القصصي المختلف، بلغته وتمرده على المألوف، في أمسية قصصية عام 1985م، (حسين علي حسين) و(سعد الدوسري) وأنا ثالثهم، قرأنا نصوصنا، أضاءها الدكتور عثمان الصيني، برؤية نقدية حداثية، أثارت أسئلة وفضول الحضور، وكان من المعلقين عليها، أديبنا الكبير الأستاذ عزيز ضياء، فقال قولته المشهورة «الليلة أصبت بالدوار»، وكان ذلك ردة فعل لكثيرين، والذين أحسوا بدوار الدهشة، دهشة النص القصصي المستحدث، والقراءة النقدية المختلفة. قرأت في تلك الأمسية نص (ما جاء في خبر سالم)، وهو النص الذي كان نقطة تحولي في تجربة كتابة القصة. في مرحلة مفصلية، كانت القصة في أدبنا تأخذ في مسيرتها نهجاً مختلفاً، وتوجهاً يتأثر بالمتغيرات. تلك مرحلة تاريخية، في النقد والإبداع بأدبنا، لم تكن القصة تستأثر بأجواء الحضور القوي في المنابر، ولم تأخذ المساحات الواسعة في المشهد الثقافي، كالشعر والمقالة والرواية. لكن الشعر في فترة الطفرة الحداثية كان حاضراً بفرسانه ومبدعيه، إبداع شعري يتنافس فيه المبدعون، الأكثر جرأة على التغيير والاختلاف، فترة أضاءت مباهجها، نصوص الثبيتي، الصيخان، العلي، الدميني، الحربي، أشجان وفوزية أبو خالد. كان التنافس حامياً بين كُتّاب القصة والشعراء، الكل يسابق لخطف الأضواء، والرهان على إبهار الناقد والمتلقي. وما نشهده اليوم يعيد للأذهان السؤال التقليدي، أما زال الشعر ديوان العرب، أم أن السرد أصبح هو المهيمن؟ من الطبيعي ومنطقياً، ونحن أمام تسونامي سردي يجتاح المشهد الثقافي، أن يخفت أو يغيب صوت القصة القصيرة، بعد أن أصبحت الرواية مغرية حتى لمَنْ لا صلة له من قريب أو بعيد بالسرد. وكان من الطبيعي أن يشد الكم الهائل من الأعمال الروائية انتباه النقاد، وهو سرد توافرت فيه عناصر الجرأة والمغامرة والخوض في المحظور وكشف المستور من سوءات المجتمع، وما في قاعه من خبايا مسكوت عنها. وأزعم أن التطور المذهل والنقلة النوعية في كتابة السرد مؤخراً كان مذهلاً بمبدعين كتبوا القصة القصيرة أولاً. الروائيان الأرجنتيني جارسيا ماركيز والفرنسي آلان غرييه، قالا: الذين فشلوا في إبداع الرواية هم الذين لم يجربوا كتابة القصة القصيرة.