كانت بهجة الأعياد فيما قبل ستين سنة فما فوقها لا تضاهيها أية بهجة في الحياة خاصة بالنسبة للصغار بنين وبنات، وكان الكل ينتظر هذه المناسبة بشوق جارف، واستشراف باسم، ذلك أن الحياة في الحقب الماضية رغم بساطتها ووداعتها، لا يوجد فيها الا نسبة ضئيلة جداً مما يوجد في حياتنا الحاضرة من وسائل التسلية والترفيه البريء وغير البريء ما عدا مناسبة العيد,, ويا لها من مناسبة!!. كان للعيد فيما مضى مما عشناه وعاشه آباؤنا وأجدادنا عدة مظاهر تحرك ساكن مجتمع المدينة والقرية، وتسكب في شرايينه دماء الحيوية النسبية والتغيير النفسي، البهيج المنبثق من التغير المظهري الملفت, لله تلك البهجة اين مكانها الآن؟!,. تمتد أنامل الزمن مشيرة الى كل المظاهر التي تؤنس وحشة الليل المكفهر، وتنطق ظلامه الصامت بشيء من بصيص النور الذي تدلقه الفنارات والأتاريك (السرج),, اذا قرب العيد في منزل هنا ومنزل هناك، يجتمع فيها عدد من الشباب يتسامرون ويرتبون اعضاء (المليشيات) التي ستعين لحراسة مواقع العيد في تقاطعات الشوارع والحارات عندما يبدؤون بنقش الجدران المطلة على هذه المواقع والتي عادة ما تكون شرارة الصدام بين شباب هذا الموقع وشباب الموقع المنافس,, والذين يتسلطون بتشويه هذا النقش او ذاك عن طريق تلطيخ الرسوم المنقوشة بمادة (المغر) وهو الطين الأحمر الذي يزين الجدران بأشكاله الجميلة,, والتلطيخ من الخصوم المنافسين عادة ما يكون بمخلفات (البقر اللينة), ويكون الرد على هذا والانتقام بمثله أو أشد,, واذا حمى الوطيس واشتد الخصام، أخذت (المقاليع) دورها، والتي نشاهد مثيلاً لها لدى الشباب (الفلسطيني) في مقاومة اليهود الآن. 1 هذا هو المظهر الأول من مظاهر الاهتمام الكبير بالعيد لدى الشباب والصغار، أما الكبار فيشجعون من بعيد لبعيد، ويشاركون في المصالحة بين الشباب اذا اقتضى الأمر ذلك. 2 المظهر الثاني (الحوامة) اي الدوران في الشوارع وطرق ابواب البيوت قبل العيد بيوم,, بالنسبة للصغار ذكوراً واناثاً, وقد ازهرت اجسامهم باللباس الجديد والفرحة الغامرة، ويقفون جماعات، جماعات حول البيوت بنشيدهم المألوف (أبي عيدية، عادت عليكم في حال زينة، والفقر ما يشقق ايديكم,,) الخ ثم يقولون (نوقف الحميّر وإلاَّ نمشيه؟) فإن قالت ربة البيت (وقفوه) تضاحكوا فرحاً، وجاءت تحمل في طرف (شيلتها) ما يوازي ربع او نصف كيلو من القريض والملبس وحب القرع المصبغ بعدة ألوان، فتنفح كل واحد من الواقفين حفنة من هذه التسالي والمكسرات,, ويطلقون عند ذلك نشيدهم العتيد! (عشاكم شط الفاطر، وإدامه سمن ساكر، وأم محمد تبله، والحايل قفرة له) وكل امرأة في هذا النشيد هي (أم محمد) حتماً حتى لو كان اسمها او كنيتها أم عبد الله أو علي أو ناصر، وتفسير كلمات هذا النشيد لمن لا يعرفه من أحفادنا هو (شط الفاطر أي سنام الناقة، والإدام بالسمن معروف، وأم محمد تبله أي تبل القرصان بمرق اللحم، والحايل من الأنعام التي ليست حاملاً والقفرة القديد). كل هذا الغناء وهذا النشيد من أجل حبيبات من القريض والملبس لا تملأ كف الصغير، ولكن لها وقعها النفسي في ذلك الحين لدى الصغار فكيف بهم لو شاهدوا اليوم ما يمد على الموائد من النعم الوافرة والخيرات، بما فيها من انواع المكسرات والمعجنات، والمطجنات، والمطبخات لأنواع لا تحصى من الاكلات، أين منها تلك البطون الجائعات والشفاه اليابسات,,؟!. 3 المظهر الثالث لاحتفالية الناس بالعيد في ذلك الزمان (السَّوق) أي (القطة) حيث يتجمع الشباب في عدد من ديوانيات البيوت، كل مجموعة من الأصدقاء تجتمع في ديوانية فلان من الناس، ويشتركون في شراء السكر والشاهي الذي هو سيد سهرتهم، مع الاصطلاء بنار الطلح والسدر والرمث ولا تهمهم أعمدة الدخان المتصاعدة ما داموا يشاهدون (الأباريق) منها ما يسكب ومنها ما ينجز للسكب! وكل صعب في حفلة شاهي ليلة العيد يكون سهلاً,, الا اذا علم أهل الحسبة عن هذا التجمع الذي قد يكون فيه بعض الذين (يشربون التتن) الدخان! فانهم عند ذلك ينقلب فرحهم ترحاً حيث يقتاد المدخن الى سجن الامارة لتوقيفه ساعة أو نحوها من باب التخويف ثم يطلق سراحه ليتمتع بالعيد مع أهله ورفاقه. 4 المظهر الرابع: (طعام العيد) الذي تتفنن في طبخه وتزويقه سيدات البيوت، ويتنافسن في صناعته كل بقدر طاقتها، وإمكاناتها المادية وهي عموماً إمكانات محدودة جداً، يتحلق حول هذه الصحون الرجال والصبيان، ويتنقلون بينها لقمة من هذا ولقمة من ذاك ويحكم بفوز العيد الأجود، ولكن سراً وبدون جائزة . وهذا الاجتماع الجماعي على طعام العيد بعد الصلاة والتهاني به هو الفرصة المتاحة للتلاقي الحميم بين الأقارب المتجاورين والجيران غير الأقارب. وحال ما يغسلون ايديهم من الطعام ينطلق كل منهم للسلام والتهنئة بالعيد للوالدين والاقربين ثم كبار السن ومن يتصادف وجودهم في الطرقات ذاهبين أو آيبين من,, والى,. وسلام العيد غالباً يكون طيَّاً لصفحات من الخلافات والتنافر او التقاطع ولذلك جاء المثل (سلام القاطع يوم العيد). وبعد,, لو أردت أن أقارن بين ماضينا نحن,, وحاضر أحفادنا,, فماذا عساي أن اقول في حياة اختلفت اختلافاً جذرياً فيما عدا ثوابت الأمة عقيدة وشريعة وان خدشت وجرحت من أهلها وأعدائها على السواء؟. ماذا عساي أن اقول عن هذا الغنى بعد الفقر؟ وهذا الترف بعد الخشونة؟ وتحقيق الفضول بعد العجز عن الأساسيات؟. ماذا أقول عن تميع الشباب وعدم تقديرهم لما هم فيه من بلهنية العيش ورغد الحياة؟ ماذا أقول عن علامات تفكك في المجتمع؟ وتباعد بين الناس؟ اللهم الا ما كان ذا مصلحة ذاتية؟ فأصبح رباط المصالح أقوى من رباط الدين ومن رباط القرابة,, لقد ادركتنا سنن من قبلنا كما قال نبي الهدى محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام لتتبعن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قال الصحابة: اليهود والنصارى يا رسول الله؟ قال فمن؟ أي من غيرهم)؟. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، واصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، واصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.