في لقاء تلفزيوني تحدث الكاتب والصحفي اللامع عبدالرحمن الراشد عن أمور كثيرة، ومن حق الصحيفة التي تطل منها حروفي أن أورد ثناءه على «الجزيرة» مدرسته الأولى وبدايته في طريق النجاح كما يقول ، وقد أثنى على تجربته فيها وذكر زملاءه خاصاً الأستاذ خالد المالك أستاذه كما قال فتحية للكاتب الكبير لوفائه، وأخرى للمنبر الإعلامي الذي تخرجت منه أجيال يمثل الراشد أنموذجاً صالحاً لها. وليس استطراداً أن أنوّه بما وصلت إليه صحيفة الجزيرة، ولتسمحوا لي أن أسوق شهادة حق سمعتها من شخص لديه اهتمام بمقارنة الجرائد المحلية، فقد قال مرة إنه يرى الجزيرة «هذه الأيام» بكثرة على مكاتب.. وبين أيدي من يحتسون القهوة كل صباح، مستدلاً بمادتها الصحفية من كتّاب ومتابعة وتقارير وتحقيقات مثيرة، معطياً هذا المقارن نسبة 90% للمادة الصحفية التي يتكبد القارئ عناء الشراء من أجلها، وهذا التغير أنا أراه، وأرى «عزيزتي الجزيرة» أيضاً مما يميز الجزيرة. هذا ليس لب الموضوع، ولكنه الاستطراد شر لابد منه، كما أن النجاح يستحق الذكر، وعلى ذكر النجاح شد انتباهي وأنا أُشاهد اللقاء التلفزيوني للكاتب عبدالرحمن الراشد أنه شديد التفاؤل وقد ذكر كلمة «الحظ» كمؤشر لرضاه عما وصل إليه أكثر من مرة، في مرات كانت للهروب من موضوع ما، وفي أخرى كانت عفوية، وتساءلت هل بين التفاؤل والنجاح علاقة؟ وبصورة أدق بين التفاؤل و «الحضور» أو محبة الناس، فليس كل الناجحين يستهويك نجاحهم. يا لهذا الاستطراد، ولكن سأُحْكِم قبضتي هذه المرة على لجام القلم الجامح، لأبيّن أنني كتبت لموضوع يتعلق بالمرأة العاملة، ففي اللقاء مع الراشد ألمح إلى ما علق في ذهني بعد أن غادرت البرنامج، وبعدها بأيام تبخرت كل المحاور التي طُرحت ولم يبق منها إلا جزئية عرّج لها الكاتب في محور لا يتعلق بالمرأة فقال تقريباً «إن المرأة السعودية العاملة تتكبد المشاق وعناء المسافات الطويلة ليس للمادة فقط وإنما )لتأكيد حضورها( كجزء فاعل في المجتمع»، ولم يَعْلَق هذا الملح في ذهني من كل ما ورد في اللقاء الطويل ونسيته إلا من أجل أنه يلمس تغيراً نحن لا نلحظه؛ لأننا في معتركه، فنظرته تلك نظرة ذلك الرجل الذي يرى التغيرات على المجتمع السعودي من منظار واضح، فهو وإن كان جزءاً منا في حضوره الفكري وفي انتمائه إلا إنه يعيش بعيداً عنا، فيرصد المتغيرات الدقيقة بعين لا نراها نحن بها. نحن الذين نعيش داخل هذا المجتمع نلحظ التغيرات الواضحة كتلك التي تعود إلى بداية تعليم المرأة في المملكة، وأذكر أنني قرأت للكاتب عبدالله بن بخيت في فترة الاحتفال بالمئوية مقالاً طالب فيه إحدى الشخصيات سمّاها التي واكبت ذلك التغير أن يسجل للتاريخ ما كان من اعتراض المجتمع آنذاك ومحاولات الحكومة إقناع الناس بفكرة تعليم المرأة وفتح مدارس البنات، وتلك الأحداث من قبيل «الصراع الثقافي» الإيجابي، وهو مرحلة من مراحل التغير الاجتماعي، فدخول شيء جديد على ثقافة المجتمع يشبه الاكتشاف الجديد يحتاج إلى الانتشار والاهتمام فيمر بمرحلة الصراع ثم القبول والتوافق، فمن الطبيعي الآن بل لا تفكر فيه أن تخرج في الصباح مع زوجتك أو أختك لكي توصلها إلى مقر «عملها» بل أكثر من ذلك أن تسافر إلى مدينة أو قرية من أجل أن تبقى مرافقاً مع قريبة لك أجبرتها الظروف أن تعمل في مكان بعيد. إن مجتمعنا مرّ بتغيرات تتميز بأنها سريعة في أمور كثيرة، وما هذا التغير إلا جزء منها، له أسبابه وعوامله المتعددة اقتصادياً وثقافياً..، وبالقياس إلى رفض المجتمع فكرة تعليم المرأة قبل سنوات معدودة وصلنا اليوم إلى مرحلة لا بأس بها من التقبل، وهذا بفضل الاستقرار السياسي والانفتاح الثقافي. وما أشار إليه الراشد يمثل استقلالية المرأة، وهو منحى آخر في هذا التغير، فليس كل المواطنات العاملات بحاجة إلى تلك الوظائف، فمن الطبيعي أن يكون «للأنا» دور بارز هنا «والإنسان يستطيع أن يحقق تقدماً لا حدود له عن طريق إرادته» كما يقول ديكارت، وهذا ينطبق على المرأة العاملة في مجتمعنا فهي بإرادتها استطاعت أن تثبت «الأنا» إلا إن كانت النساء بلا «أنا» و«إرادة» ولا أحد في هذا الزمن يقول بذلك. فهي أصبحت متعلمة بارادتها، ثم متخصصة، وهذان العاملان هما سبب الاستقلالية التي أتت لظروف أخرى، فالعوامل الاقتصادية مثلاً أدت إلى تغيرات في بناء الأسرة من «واسعة» إلى «صغيرة»، كما أن الإنتاج الجماعي أفرز مبدأ «التعاون» داخل الأسرة، وهذا التعاون والمساهمة من قبل المرأة في الدور الأسري خفف من سلطة الرجل فصارت المرأة تعمل وتنتج وتستقل، فهي بالتالي تساوي الرجل من هذه النظرة. ولو تساءلت ببساطة ما الذي يجعل المرأة العاملة وخصوصاً تلك التي تتكبد العناء، تقدم على هذا مع أنها تستطيع أن تعيش تحت كنف رجل يؤمّن لها ما تريده، ستتفق معي أن المادة ليست كل شيء، لذا فالمظهر الذي أشار إليه الراشد «تأكيد حضورها» مظهر اجتماعي ونفسي دقيق يؤكد «ذات» المرأة ويبرزها، وليس من العقل أن تدرس الفتاة سنوات عديدة ثم تجلس في بيتها، حتى لو كانت ليست بحاجة إلى المادة، فهي على الأقل تعبت وتريد أن ترى ثمرة هذا النجاح، كما أنه ليس من المنطق أن تتكبد المسافات الطويلة، وتخسر ثلاثة أرباع مرتبها من أجل لا شيء، إذاً فالعمل يعني حضور الذات وبروز الأنا وهذا ما نسميه دور المرأة في المجتمع، وهناك «ذات اجتماعية» أيضاً فالمجتمعات أصبحت تفتخر بارتفاع نسبة العاملات فيها، لأن مشاركة المرأة بشكل أوسع تعني تحقيق، وتحقق التنمية والتقدم. هذه التغيرات الايجابية في مجتمعنا لم تكن لتأتي لولا الاستقرار السياسي، والدور التنموي للدولة، والخطط التي يضعها خبراء وعلماء تتماشى تدريجياً مع التغيرات الاجتماعية، ومَن يطالبون بفتح آفاق أوسع لعمل المرأة ربما لا يدركون ما تخطط له الدولة في سبيل عدم القفز بالخطوات حتى تتوافق مع التغيرات الاجتماعية، ولذلك فالسياسات التنموية ترصد الوقت المناسب لفتح تلك الآفاق، فالطائر الصغير حينما يتأهب للانطلاق يستجمع كل قواه ثم يخطو فيطير.