يجمع الكثيرون بأن الجدل العولمي يشكل اليوم أحد أبرز مواضيع الأجندة السياسية والاقتصادية، المحلية منها والاقليمية والدولية, كما يجمعون أيضا بأن ظاهرة العولمة هي من أكثر المشكلات تعقيدا لصعوبة تشخيص حل سياسي جامع وشامل، والسبب في ذلك يعود الى تداخل المصالح والاهتمامات. ولاشك أن نظرية العولمة قد أصبحت سيدة المحافل العلمية في عقد التسعينات على الأخص في مجال الدراسات الانسانية والاجتماعية. واليوم، لا تخلو جامعة مرموقة، خاصة في الدول المتقدمة، من ادراج نظرية العولمة ضمن مناهجها الدراسية، بعضها في أكثر من شعبة, أصبح هذا منهج الدوريات العلمية والاجتماعية التي غالبا ما تخصص أعدادا خاصة لاستعراض نظرية العولمة. لكن، من الضروري التحفظ في استخدام العولمة كمصطلح، إذ إنه يتصف بالمطاطية حينا وبالتحجر الفكري القيمي حينا آخر، وبالمرونة التي تسع الجميع تارة أخرى. لقد بذلت نظرية العولمة جميع النظريات الأخرى في عنفوانها وسرعة انتشارها وتداولها لدرجة أنها كادت أن تكون عقيدة لا يحدها حاجز وان وصف العولمة بالخرافة أو الأسطورة، قول تردده عدة ألسنة وليس من خاصتنا. حيث جاء اللفظ على لسان كل من تيكل وفيرجسون وهارود وويلكن وآخرين. ونقول الأسطورة، لأن الأسطورة يتناقلها الناس بنوع من النهم وهي تؤثر على رؤاهم وأعمالهم وأنشطتهم ولكنها لا تتصف بعدم صلاحيتها للنقاش الجاد. ولهذا، فإن معظم أدبيات العولمة تدور حول تبرير مجرى النظرية مسلمة بوجودها الذي لم يعد موضعا للجدل. هذا وقد شجع على انتشار نظرية العولمة وضعها الايجابي والمنفعي بالنسبة للبيوت التجارية والمؤسسات الرأسمالية والتي بدورها ستمول دور النشر والدوريات والمؤتمرات والجامعات. وليس من المدهش أن الأدبيات التي تصدر من هذه المنافذ تنحصر في مجالات تبرير العولمة متفادية المسائل الكبرى التي تخص قوة وكنه ومنفعة النظرية. إن جُلّ مفكري العولمة يعتبرون ان انحسار الحدود الوطنية هو من أهم سمات العولمة، وما يعنونه هنا هو ان الحدود الجغرافية في طريقها الى التهشم الكامل أمام المد العولمي، ويعود هذا حسب نظرية العولمة الى التغيير الجذري الذي حدث في عالم اليوم. على أنه لا يستقيم الخوض في الجدل العولمي دون التطرق لبعض أهم رواد العولمة الأوائل مثل فرانسيس فوكوياما في كتابه المثير للجدل نهاية التاريخ وخاتمة البشرية , فقد كان هذا الكتاب بمثابة دعاية سياسية لتسويق نموذج العولمة إثر اندثار المعسكر الشيوعي وتربع أمريكا على قيادة النظام العالمي الجديد. بيد ان هذا الكتاب، شأنه شأن أي دعاية أخرى تعتريه كثير من النواقص وتعتيم الرؤية واللبس. نهاية التاريخ يمثل في جوهره محاولة لأمركة العالم وايجاد المبررات لاحكام سيطرة القوى الغنية المتفوقة على الفقيرة, وهذا هو البعد غير الأخلاقي الذي يتضمنه نهاية التاريخ . إن مؤتمر دافوس الذي عقد في جبال الألب بسويسرا في نهاية التسعينات يتناول بعض قضايا العولمة ويتضمن موقفا جديدا تجاه العولمة ونهاية التاريخ، وان لم يقف المنتدى حولها بالقدر أو الصراحة المطلوبين، فقد أكد المنتدى ان على رجال الأعمال والدول الغنية ألا يتمادوا في نهجهم الذي من شأنه أن يفضي لايجاد واحات غنية ثرية ومناطق أخرى جدباء قفراء مفتقرة لمقومات التنمية، مما يزيد اتساع الهوة بين العالم الغني ورصيفه المتخلف. لذا، يقول بعض المتفائلين ان مسألة صمود العولمة وديمومتها أو انتكاستها، تتقرر حسب سلوكيات أمريكا فهي التي تديرها باتساق وحكمة للحفاظ على مصالحها الوطنية والاستراتيجية. يقول مؤلفا كتاب:العولمة: دراسة تحليلية نقدية : العولمة محيط من صنع أمريكا، إنها أسلوب الغرب، وعملية انتشارها في جوهرها عملية تغريب هذا المكون تسخّر له أمريكا العلم والتقنية وكل وسائل التطور الحديثة، بالاضافة للروابط التاريخية عبر العصور. وللأسف فإنه، للوهلة الأولى، تبدو العولمة موجهة نحو مقاصد المال والاستهلاك والأشياء المادية المحسوسة والمرئية، بيد أنه في الواقع فإن سلاحها الحقيقي موجه نحو عقلية الانسان, فهي غزو ثقافي بأكمله لأنها موجهة لفكر الانسان بفضل حيازتها على معرفة منظمة. والسؤال المشروع الذي ينبغي على الاقتصاديين طرحه اليوم هو: ما هو الدور الذي يمكن للاقتصاد الوطني أن يلعبه تحت ظروف العولمة؟ وما هي فرص النجاح أو فرص الفشل؟! إن العالم الثالث اليوم ليس في حاجة إلى دكتاتورية السوق وأنماط الامبريالية الثقافية التي تتضمنها موجة العولمة العاتية، لأنها تعوق فرصة تحقيق التنمية المستديمة، بل هو في حاجة إلى قيم التكافل والتأكيد على النهضة بالانتاج والمشاركة والعون الذاتي، كلها قيم لا تجد مقاما في قاموس العولمة، ولا يستسيغها أباطرة وعمالقة المال والعولمة. ختاماً أقول ان العولمة قد أصبحت من النظريات المرموقة والمتداولة في أروقة المحافل العلمية والعملية وبذلك تكون قد أحالت كثيرا من النظريات السابقة الى مزبلة التاريخ, وتبقى العولمة عقيدة جديدة منمّقة، هدفها زيادة هيمنة الغرب على بقية دول العالم، ولا غرابة إن قيل ان العولمة موضة عالم الغرب. د, زيد بن محمد الرماني عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية