روبرت جاكسون تعريب فاضل جتكر. ميثاق العولمة: سلوك الانسان في عالم عامر بالدول. مكتبة عبيكان، الرياض. 2003. 824 صفحة. مؤلف الكتاب، روبرت جاكسون، أستاذ العلوم السياسية في جامعة كولومبيا البريطانية، وهو واحد من أبرز أساتذة العلاقات الدولية. ويعتبر عمله هذا من الأعمال المهمة في بدايات هذا القرن، إذ أنه يعيد الى المقاربة الكلاسيكية للمجتمع الدولي شبابها ويمكّنها من التواصل مع الحقائق الجديدة في سياسة العالم، كما يضفي الشرعية على المجتمع التعددي للدول السيادية بوصفه مجتمعاً يقوم على احترام التنوع الانساني ويرفع من شأن حرية الانسان. يتناول المؤلف بعمق مستقبل المجتمع الدولي في القرن الحادي والعشرين. ومن أهم القضايا التي يستعرضها قضايا السلم والحرب، وقضايا الأمن والتدخل، وحقوق الانسان، وظاهرة الدول المفلسة، وهاجس الديموقراطية. ويقيم المؤلف صرحه هذا بباقة متآلفة من الاختصاصات الاكاديمية نراها تشمل التاريخ العسكري والديبلوماسي، والدراسات الحقوقية والدولية، والنظرات السياسية الأممية. وهو يرى ان هذه الدراسة مطلوبة بالحاح من أجل الامساك أكاديمياً بجملة المتغيرات الكبرى التي شهدتها سياسة العالم مع انتهاء الحرب الباردة، وينطلق من افتراض يقول باستحالة تقطيع البحوث الدولية واقحامها في قوالب اكاديمية. فإذا أردنا فهم مجتمع العولمة فلا بد من ترابط تلك البحوث والدراسات الدولية. وهو يرى أيضاً ان كثيراً من الكتب التي صدرت في التسعينات لم تكن قادرة على التعامل مع جملة الأحداث التي أحاطت بانتهاء الحرب الباردة وبدء حقبة جديدة في السياسة الدولية. كما لم تكن قادرة على الابتعاد عن الوضعية في مثل هذا النوع من الدراسات. وهنا نجد المؤلف يسعى الى تعليم جيل جديد، من الباحثين في العلاقات الدولية، المقاربة الكلاسيكية ووضعها موضع التنفيذ. يتولى الجزء الأول من الكتاب مسح نظرية المجتمع الدولي وتاريخه. وهو يعيد هنا صياغة بعض الأفكار الجوهرية لنظرية المجتمع الدولي والأخلاق الظرفية في فن الحكم، وصولاً الى اظهار حقيقة ان السياسة الخارجية والديبلوماسية والحرب ما هي الا نشاطات انسانية من بدايتها الى نهايتها. وينظر الجزء الثاني في سلسلة الممارسات والمشكلات المختلفة العائدة الى فترتي ما بعد 1945، وما بعد 1989 في السياسة العالمية، بما فيها اتساع فكرة الأمن في عالم تعددي، وكذلك بعض مشكلات استخدام الديموقراطية كعيار أساسي لأسرة دولية معولمة. أما الجزء الثالث والأخير فيتناول قضيتين مهمتين وهما قضية تسويغ العولمة ككل، وآفاق هذا الميثاق بوصفه اطاراً معيارياً لسياسة العالم في القرن الحادي والعشرين. ويستعرض هنا بعض الانتقادات المهمة الموجهة الى مفهوم العالم الحديث القائم على الدول ذات السيادة، ويقدم رداً على كثير من السيناريوهات المقترحة لتجاوز ذلك العالم. وهو يتوقع تطوراً مستمراً للمجتمع الدولي، ويدافع عن ميثاق العولمة بوصفه الترتيب المعياري الأفضل المتوافر لإدارة جملة العلاقات الدولية في ظل الظروف والشروط الراهنة والمنظورة مستقبلاً على صعيد السياسة العالمية. يحدد المؤلف تاريخ بداية التحرك باتجاه اقامة مجتمع عولمي بالنصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث بوشر بضم أنظمة سياسية غير غربية الى مجتمع دولي غربي صارم كان يستبعد كل من ينتمي الى حضارة غير غربية. إلا أن بناء مجتمع عولمي كامل لدول سيادية لم يكتمل الا في فترة ما بعد 1945 حيث تأسست منظمة الأممالمتحدة. ويشكل "ميثاق العولمة" المحاولة الأولى في تاريخ العالم لبناء مجتمع دولي يعمل وفق مبدأ الاعتراف وعدم التدخل الذي يجري بين الحضارات والثقافات المختلفة في العالم، وهو يقوم على التعددية المتمثلة بالسيادة المتساوية للدول. فميثاق العولمة مؤسسة انسانية دائبة على النمو والتطور. وهو يشكل معايير التعرف السياسي، ويربط بين البشر في جميع الأماكن بصرف النظر عن أية سمة خاصة يتصفون بها في نمط حياتهم. لقد شكل الانتشار العولمي السريع للقانون الدولي والممارسة الديبلوماسية في القرن الماضي دليلاً على قدرة مجتمع الدول على احتضان عدد كبير جداً وشديد التباين من النظم السياسية لدى كتلة هائلة من البشر. حدث هذا على رغم وجود ثقافة سياسية واجتماعية تميز حضارات محددة، مثل حضارة الغرب، أوحضارة شرق آسيا، أو حضارة العالم الاسلامي. ويدعو المؤلف الى اعتماد مبادئ ميثاق العولمة قائلاً: في ما مضى كانت الحضارة تشكل عائقاً أمام الحوار السياسي بين البشر. أما الآن فلم يعد الأمر كذلك. ونلاحظ هنا ان المؤلف يلغي نظرية "صراع الحضارات" عند هانتينغتون. ف"ميثاق العولمة"، على رغم تجذره تاريخياً في تربة حضارة أوروبا، بات الآن جسراً بين حضارات العالم المعاصر وثقافاته، وهو يوفر النقاش والحوار بين نحو مئة وتسعين دولة مستقلة منغرسة في تربة تلك الثقافات والحضارات المختلفة. لا يدعونا المؤلف الى كثير من التفاؤل حول "تعولم" البشرية، اذ لا تزال الرابطة العالمية المعاصرة للدول المستقلة تفتقر الى سمات أسرة سياسية. وليس ثمة إلا القليل من الأهداف والقيم المشتركة بين سكان العالم. والناس لا يتبعون عقيدة واحدة، ولا توجد أية سطة سياسية عالمية قادرة على استنفار سكان العالم ودفعهم نحو التحرك السليم ايديولوجياً. ليس أهل العالم كما يقول موالين مخلصين لهذا العالم. فهم ليسوا قابلين للتعبئة والاستنفار الا من قبل الدول القوية أو الأسر السياسية المماثلة. وما "الأسرة الدولية" الا صورة تجريدية مشوّشة. ويبقى عالم السياسة أساساً عالم دول ذات سيادة. ومع هذا يصر المؤلف على أن "ميثاق العولمة" هو الإطار السياسي الحقوقي الوحيد القادر على التسامي فوق جميع الخلافات بين الدول، وعلى احتواء منظوماتها العقائدية المختلفة وتشكيل أساس معياري مناسب لتعايشها وتعاونها. كتاب موسوعي يتصدى بالدراسة العميقة لكثير من قضايا السياسة الدولية وارتباطها بالعولمة. وهو يظل مرجعاً مهماً وأساسياً لكل من يريد أن يدرس "العولمة" دراسة أكاديمية، وبلغة بعيدة عن التعقيد.