هذه الذاكرة نزفت منها ذاكرة مليون شهيد ويزيد في رواية أحلام مستغانمي التي أخذتنا ذات قراءة إلى الجزائر وطافت بنا بين قناطرها وجابت بنا جسورها المعلقة وقسنطينة التي لطالما راودتنا رؤياها في صحونا أكثر من خيالاتنا حتى عشقناها وأدمنا كلمات مستغانمي وانتظرنا جديدها بصبر أرقه الشغف وأربكه ترقب معانقة الجزائر حتى لربما نعثر على أرواحنا التي كانت غادرتنا ذات رواية ولم نستطع أن نستعيدها.. بقيت كما جسور قسنطينة المعلقة تعانق سماء تلك المدينة التي برعت أحلام في رسمها بالحرف ثم طبعها على ذاكرتنا باقتدار حتى إذا زرناها لا نجد أنها تختلف كثيرا عن تلك التي كنا رشفنا تفاصيلها من حرف روائية بارعة. باللغة العربية وبكلمات أشبه بسحر الشعر وببعض المفردات الجزائرية التي تخللت المسلسل اليومي « ذاكرة الجسد» والذي أنتجه تلفزيون أبو ظبي ترجمت الرواية إلى ذاكرة حية قد تكون قريبة كثيرا من تلك التي كتبتها أحلام ذات جنون جميل، ولعل ما جمل العمل التلفزيوني أنه لم تبتر كلمات أحلام كما بتر ذراع خالد البطل الجزائري في الحرب بل بقي شذى الحرف نابضا. جمال سليمان بكل ما أوتي من قدرة وحضور يروينا بذاكرة بقيت قيد الورق زمنا نعود إليها إذا ما أردنا أن تتفجر قسنطينة ينابيعا من ورد في شرايين الذاكرة، المشهد يبدأ في معرض للوحات التي رسمها البطل الجزائري (الذي يجسده الفنان السوري سليمان) نزفت بها ذاكرة المكان من ذاكرة لم تكن لترتوي ومن منفى اتخذته أحلام لبطلها كعادة سيئة لم يكن من السهولة أن يلملم منه أشياءه ويغادر إلى حيث الوطن وحيث أسوار شائكة تفحمت عليها جثث الهاربين من قبضة الحرب والموت وبقيت تلك الذراع تذكر صاحبها بفقدها كلما شعر بحنين لضم ذكرياته فأدرك أنه بيد واحدة استطاعت أن تهرب من الذكرى إلى ذكرى أخرى يرسمها بالريشة والألوان على لوحات يفض بياضها بالصمت الملون. لطالما تقنا لعمل تلفزيوني يرقى بما نحتفظ به من أعمال خالدة وبلغتنا العربية بعيدا عن زعيق المسلسلات المعتادة التي تعمر بها الفضائيات ويزدحم بها فضاؤنا خلال الشهر الفضيل. «ذاكرة الجسد» ما زال في الحلقات الأولى منه وهو نزف لذاكرة بطولية جزائرية كان يرويها التاريخ ونلعق مرارتها حين نشعر بفقدان مليون ونصف شهيد واليوم نرتوي من ذاكرة شعرية لابنة الجزائر التي تعودنا أن يأسرنا حرفها الذي نأمل أن يحتفظ بوهجه وصوته الشعري طوال حلقات المسلسل. لا نريد أن نحمل ذاكرة معطوبة فقد آن الوقت لنترجمها في فن راق يعيد لأعمال بقيت خالدة حتى الآن تذكر بمبدعيها ونأمل في ذاكرة الجسد أن يكون كتلك ليس تحيزاً لمستغانمي بل للإبداع الراقي. [email protected]