إضافة إلى ما يحمله كل منهما تجاه الآخر من مشاعر متضادة وصور نمطية يتجلى تمايز البدو والحضر في الرموز التي يتخذها كل منهما كمحددات لهويته, فالبدو، في النموذج الخلدوني، هم أهل الوبر، أي بيوت الشعر المتنقلة، والحضر هم أهل المدر، أي بيوت الطين الثابتة, أما في النموذج المحلي فإن رمز البداوة ومصدر عزة البدوي هو الإبل، بما تمثله من حركية وتنقل واستقلال عن سلطة أي حاكم أو دولة, أما رمز الحضارة الزراعية ومصدر عزة الحضري فهو النخلة، بما تمثله من استقرار وثبات ورسوخ واستمرارية في العطاء, هذان الرمزان المحليان، الذود والغرس، يختزلان الفروق بين البداوة والحضارة في النموذج المحلي ويحصرانها في التخصص الإنتاجي الذي يتمثل إما برعي الإبل أو غرس النخيل, هنا يتحول الفرق بين البداوة والحضارة إلى مجرد اختلاف في وسائل الإنتاج وإلى شكل من أشكال التخصص وتوزيع العمل، فهناك أعمال تتطلب الاستقرار وهناك أعمال تتطلب الترحال, منذ فجر التاريخ وحضر الجزيرة العربية يشتغلون بحراثة الأرض وزراعتها, تنتشر القرى الزراعية على سفوح الجبال حيث تتجمع مياه الامطار المنحدرة من الأعالي، كما هي الحال بالنسبة لجبال طويق وجبال أجا وسلمى، وعلى جنبات الوديان الكبيرة مثل وادي فاطمة ووادي حنيفة ووادي الدواسر ووادي الرمة، وغيرها, يجرف الوادي في جريانه التربة الخصبة فيودعها على ضفتيه كما تنساب مياهه إلى أسفل من خلال التربة والصخور المسامية لتتجمع تحت سطح الأرض في مصائد صخرية أو غرينية, ويحفر الفلاحون آبارا عميقة للوصول إلى الماء الذي يجذبونه لري زراعتهم بواسطة السواني, إلا أن مناخ الصحراء بجفافه وحرارته يجعل من الزراعة عملا شاقا ومكلفا ومردوده ضئيل, قسوة المناخ وشح المياه وبساطة التكنولوجيا والاعتماد كلية على الطاقة الحيوانية والبشرية تقوم عوائق تحد من حجم الفلاحة وتحول دون زراعة مساحات كبيرة, إنتاج المساحات الصغيرة المزروعة لا يكاد يكفي حاجة الإنسان وليس هناك فائض طاقة لإنتاج غذاء حيواني, الفلاح سيضطر إلى أن ينتج بنفسه وفي مزرعته علف الحيوانات التي يقتنيها، لذا يقتصر جهده في تربية الحيوانات على الحد الأدنى والضروري الذي يحتاجه في أعمال المزرعة من إبل للسواني إلى حمار للنقل والمواصلات إلى بقرة أو اثنتين للحصول على الزبد والحليب ومشتقاته, يكرس الفلاحون جهدهم لإنتاج ما يحتاجه الإنسان من غذاء نباتي ومنتجات زراعية بينما يترك للبدو مهمة الإنتاج الحيواني من أغنام وإبل وخيول. وقد ساهم استئناس النخلة منذ حوالي (8,000) ثمانية آلاف سنة في انتشار الزراعة بالمناطق الجافة لأن عروق النخلة تضرب بعيدا في أعماق التربة لتحصل على الرطوبة اللازمة, ومن المؤكد أن اهتمام العرب بالنخلة موغل في القدم حيث تم استئناسها قبل البعير بما لا يقل عن 4000 أربعة آلاف سنة, يقول الألوسي في حديثه عن الفلاحة وهي من أسباب معايش العرب العامة، لا سيما سكنة اليمن والبحرين وعمان وهجر وغالب بلاد نجد، فسكنة هذه البلاد كلها غالب معايشهم من الحرث والغرس، ولهم في غرس النخيل اهتمام وأي اهتمام! وما ورد عنهم في شأنه كلام طويل، ومعرفتهم بشؤونه كمعرفتهم بالخيل , (الألوسي د, ت, 3: 417), والمفاضلة بين الإبل والنخيل موضوع قديم حيث نجد في كتاب ذيل الأمالي والنوادر لأبي علي بن إسماعيل بن القاسم القالي البغدادي ما نصه: قال أبو علي: وحدثنا أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم عن الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال: لقيت أعرابيا بمكة، فقلت له: ممن أنت؟ قال: أسدي، قلت: ومن أيهم؟ قال؟ نهدي، قلت: من أي البلاد؟ قال: من عمان، قلت: فأنى لك هذه الفصاحة؟ قال: إنا سكنا قطرا لا نسمع فيه ناجخة التيار، قلت: صف لي أرضك، قال: سيف أفيح، وفضاء صحصح، وجبل صردح، ورمل أصبح، قلت: فما مالك؟ قال: النخل، قلت: فأين أنت عن الإبل؟ قال: إن النخل حملها غذاء، وسعفها ضياء، وجذعها بناء، وكربها صلاء، وليفها رشاء، وخوصها وعاء، وقروها إناء. وقد أمدني الباحث الهولندي مارسيل كوربورسهوك ببعض النصوص من الشعر النبطي موضوعها المفاضلة بين امتلاك الإبل وامتلاك النخيل, من هذه النصوص محاورة بين أخوين، بدوي وحضري, قال البدوي أبياتا منها هذا البيت الذي يمتدح فيه إحدى إبله بغزارة اللبن: لي فاطرٍ حدبا القرا مسميّه يرويك من قبل العَطيف وشالها فأجابه أخوه الحضري بقصيدة منها هذه الأبيات التي يؤكد فيها أن النخل أفضل لأنها توفر ظلالا باردا يقضي فيه وقت القيلولة ويشبه النخل بقوام الفتيات اللاتي خضبن أيديهن بالحناء, ويحذر أخاه البدوي من لص يفك عقال ناقته ويسرقها في ليلة ظلماء لا يظهر فيها قمر: قال العياضي الذي له غَرسه حدب الجريد مقيّلِه بظلالها ياما حلا دَقلاتها في وسطها مثل الصبايا خِضّب الحنا لها حاذِر على فاطرك حايف ليله لى غابت القمرا يفك عقالها ورفع البدوي والحضري قضيتهما إلى أبيهما ليحكم بينهما فأنشد الأب قصيدة منها الأبيات التالية التي يوضح فيها الاعتماد المتبادل بين النخل والإبل وأن لا غنى لأحدهما عن الآخر, فالنخل تعتمد على الإبل في جذب الماء من الآبار لريها، كما أن الغرب يصنع من جلد البعير وكذلك السريح يقد منه, ويقول إنه بدون الإبل يستحيل السفر وتستحيل الزراعة, لكن الأب يستدرك في البيت الثاني عشر ليبين أن الإبل عرضة للنهب وللهلاك السريع في سنين الجدب (الحلول), وامتلاك الإبل يتطلب امتلاك الخيل التي تعد من أهم وسائل الدفاع عنها وحمايتها من الغزاة, ويعود الأب ليؤكد أن سنين الجدب لو قضت على الإبل فلن تقضي على النخل الراسخة عروقها في أعماق التربة حيث تجد الماء وتقاوم الجفاف وتستمر في العطاء, كما يختلف النخل عن الإبل في أنه ليس عرضة لنهب الغزاة: البل ياناجي تسوق لنا النخل وجلودها لِظهورها تِبّاعِ جلودها تِجعل غروبٍ للنخل تِظهر لك الجم من صليب القاع الغرس لولا المسمنات تسوقه كان النخل مثل الضباع مقاعي البل لولا البل غدينا ضاعه كنا دراويشٍ طعام سباع البل لولا البل تحاوسوا العرب ضاقت على السفّار والزرّاع ياما حلى البل يوم هدّ ابها الجمل قد هو لجِلّ عشارها صوّاع اقعد سبوعينٍ إلى من زرتها بانت لك الحايل من المقراع عامٍ مجاريرٍ وعامٍ دِرّها والعام الاخر حاشيٍ ينباع ياما حلى البل يوم تِكهِب عِرفَه لى سنّدت قعسٍ من المرباع ياما حلى البل يوم يكها مارد سرفاتها تغشّم على القرّاع يِرِدّ ذي ويهِد كل صخيفه وتلقى لها من حوضها فرّاع أويّها لولا حلولٍ شِفتها تجعل حلال البدو منه اقطاع أويّها لولا الهيام وشايه وصيحة عصيرٍ ما لها فَزّاع يمسي وراعيها بكبده كَيّه ويصبح بها متبجّح الطمّاع من كان يبغى البل يشري سابق قبٍّ تعالج صرفة المصراع ياحظ من هو له فسيلٍ ناعم إلى غلى بباب التجار الصاع فلانيب ذالّ ان الركاب تخزّها ولا تضيع لى اخطا بهن الراعي أمّا الغينا في السنين المريفه الراسخات الناعمات القاع ياطول ما نزعب بها طول الدهر لين اشترينا البل من بيّاع ونشب خلاف بين جماعة ابن حصن، وهو من الدواسر الأقدمين، منهم من يقول إن الإبل أطيب ومنهم من يقول إن النخل أطيب, فرد عليهم ابن حصن مفضلا النخيل ومؤكدا أنها بخلاف الإبل ليست لقمة سائغة للغزاة, ثم يستطرد في اخر القصيدة ليصف المشاق التي يتعرض لها صاحب الإبل في سقيها ورعيها ويبين المخاطر التي يواجهها للدفاع عنها ضد الغزاة: دايرت انا الناس الى كلٍّ له اجناس ولكل نفسٍ هوى وشفوفها معها كلٍ هوى باله وانا هوى بالي غينا وربّي من السيّات يمنعها هدب الجرايد وحملٍ دايمٍ زايد وعبّابة العرق جدولها مشارعها يازين لى جيت اناها في طرف يومٍ لكن وصف الصفا صيفة مصنّعها صفر الكرب كنها بالورس مطليه كنك بزوليّة التاجر مقوبعها بنّة لقاحه الى حوّل ملقّحها بنّة زبادٍ ومسكٍ عند بايعها شبّهت اناها الى حوّل معدِّلها محّالةٍ زيّن الصراف صانعها ما دارها سرد خيلٍ في دهف ليل ولا زَلوَعَتها السبايا من مراتِعها الغرس يبغي بني عمٍّ مناعير بسيوف هندٍ وداودٍ مدارِعها نبغي حَثَرها لاهالي ضمّرٍ قود قِدِ الهبايب من المنشا تزوزعها البل سلاطين مال الناس واسياده والله يلوم الصبي اللي يودّعها البل تبي مايحٍ ومعدّيٍ فوقه ووَراه الاخر الى قادت يقرّعها البل تبي راعيٍ ماهوب عجّاز لى جات في عرفةٍ لي هو يونّعها البل تبي لابةٍ للقفر نزّاله لى جا النذر من حفيفٍ ما يزَلوِعها ومخيّراتٍ مَعَ كل ابلجٍ نادر تسمع ورا المنجم الخايف تهوّعها وعيال عمٍّ على قبٍّ عياطير عجلٍ من اوماي الايدي في ترايعها