تسود في الطبيعة كما خلقها الله قاعدة شاملة هي أن ما يعطل (طوعا أو كرها) عن الاستعمال يضمر تدريجيا ثم يتفكك ويفنى. هذه القاعدة تنطبق على الأجسام الحية والمواد الميتة مثلما تنطبق على المهارات والأفكار. أبسط مثل للتوضيح هو البداوة التي تعني قدرة الإنسان على التعامل مع الموارد الشحيحة والتقلبات الطبيعية في الصحراء وتسخيرها للبقاء على قيد الحياة. البداوة بهذا المعنى كانت إحدى المهارات في الصحاري، وكانت نمط حياة مسيطر، ثم ابتدأت تتراجع لصالح الأنماط الحضرية. اليوم مازال عندنا الاعتزاز بأصولنا البدوية التي استطاعت قهر عوامل الفناء الصحراوية، ولكننا فقدنا المهارات والقدرات البدوية القديمة على التعامل مع الصحراء. هذه فقدناها بسهولة مدهشة وغير متوقعة خلال عشرات قليلة من السنين النفطية، لسبب غبي وعابر هو القدرة على شراء المقتنيات الحضرية المادية بالمال. اذهب إلى الدهناء أو الصمان أو أي صحراء شئت في شمال وغرب وجنوب المملكة، وسوف ترى قطعانا من الإبل، لكنك لن تعثر على مالكها البدوي السعودي أو على بعض أبنائه وبناته، سوف تجد شخصا من جنسية أخرى يعيش مع الإبل والماشية في الصحراء السعودية، يرعاها نهارا ويجمعها ليلا، يسقيها ويحلبها ويعرفها بأسمائها وأصولها، لو سألته عن مكان العم الكفيل لقال لك أنه في الديرة، يأتي مرة أو مرتين في الشهر لتفقد الأحوال على جيب رباعي الدفع ، يدور حولها وهو خلف المقود ونادرا ما ينزل إلى الأرض ويحتك مباشرة بممتلكاته الحيوانية. الشخص الملتزم بأداء المهارات البدوية ليس بدوي الأصل، بل هندي أو بنغالي لا يتكلم العربية، إلا أن يكون أحيانا من السودان الشقيق. هذا الراعي، أي المسؤول عن الرعية، إن سألته عن كفيله البدوي هل هو بدوي فعلا، يجيبك بأنه ليس متأكدا، لكنه يدعي البداوة ولا يبدو كذلك ولا يستطيع العيش كذلك أيضا. أبناؤه يأتون أيام الربيع أو الأعياد للفرجة على قطعان الوالد والتفحيط والتطعيس، ثم يعودون إلى الديرة قبل ظلام الليل. المهارات والمواصفات اللازمة للتعامل مع شروط الحياة الصحراوية ضمرت وتفككت عند البدوي القديم، وأوشكت على التلاشي النهائي عند الأولاد والأحفاد. المسار نفسه ينطبق على الفلاح السعودي، والضمور نفسه وصل إليه. يوم الخميس الماضي كتب في جريدة الشرق خالد السيف (شيخ الحداثيين أو حداثي المشايخ)، كتب رثاء على طريقة قفا نبك من ذكرى، كله حرقة وتحسر على استيلاء الهنود والباكستانيين والبنغال والأفغان على مجمل شؤون النخيل والتمور في القصيم. أصبح الغزاة من الهند والسند أمهر وأشطر في التعامل مع النخلة ويجنون من ذلك الملايين، بينما الفلاح القصيمي وذراريه يبحلقون فيهم بحسرة واندهاش وينتظرون مخصصات حافز. قديما كان الفلاح المحلي وأبناؤه يحرثون ويسقون الحقول والبساتين من القلبان والآبار، ويؤبرون ويلقحون النخل ثم يجمعون المحاصيل بكد مستمر من الفجر إلى المساء ولكن على أنغام الأهازيج والأناشيد. الزوجات والبنات والخالات والعمات كن ينثرن البذور ويحصدن الأعلاف ويحلبن الماشية ويدبرن كل اقتصاديات المنزل. اليوم أصبح الفلاح السعودي وذريته في كفالة الهنود والبنغال والأفغان والباكستانيين، تماما مثل البدوي صاحب الماشية الذي أصبح في كفالة الرعاة من نفس الجنسيات. شراء المدنية بأموال النفط أدى إلى ضمور المهارات الفلاحية والبدوية وما يتعلق بها من مقومات اللياقة البدنية. إذاً ضمرت المهارات والعضلات وتيبست المفاصل نتيجة لعدم الاستعمال، كما هو متوقع حسب قوانين الحياة، أي ضمور ما لا يستعمل. على أن ضمور المهارات والأبدان ليس بالضمور الأهم، وأهم منه ضمور المخ حينما يتحول من ورشة عمل ومصنع أفكار إلى مستودع مظلم لتخزين البضائع القديمة. هذا النوع من الضمور هو موضوع الحلقة القادمة.