لم تكن علاقة الثقافة والمثقف بالسياسة وبالسلطة عند الفلسطينيين، أحسن من مثيلاتها في البلدان العربية، بالنسبة لارتهانها لعلاقات القوة والهيمنة والسلطة، وللتحيّزات السياسية، والشعارات الجمعية. إضافة إلى ما تقدم فإن هذه العلاقة كانت على درجة كبيرة من الهشاشة، بحكم حرمان المجتمعات الفلسطينية من الفضاء الثقافي الخاص بها، وغياب الحيّز الاجتماعي الموحّد لها، وخضوعها لفضاءات وسلطات ثقافية مختلفة ومتباينة، في مناطق اللجوء والشتات؛ إذا استثنينا حالة فلسطينيي 48 (كردة فعل على محاولات التذويب والتغييب والإلحاق الإسرائيلية). هكذا ليس للفلسطينيين صحيفة يومية جامعة، ولا إذاعة وقناة تلفزيونية ومكتبة ومعرض ومسرح، كما لا مدرسة وجامعة (لا في السابق ولا الآن)؛ هذا برغم صعود نجم عديد من الفلسطينيين، بغض النظر عن أماكن تواجدهم، في فضاءات الفكر والشعر والرواية والقصة والفن والمسرح والسينما والبحث والصحافة (كإدوارد سعيد ومحمود درويش ومعين بسيسو وهشام شرابي وغسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا ووليد الخالدي ويوسف وأنيس صايغ وشفيق الحوت وسليم سحاب وإسماعيل شموط ومصطفى الحلاج وحسين نازك، مثلاً). والواقع ان هذه الكوكبة من الفلسطينيين صعدت بسبب مواهبها، وإبداعاتها، ومثابرتها على تحدي الواقع الذي ألمّ بشعبها، وعنادها في مواجهة عمليات الإنكار والتهميش، أي بمعزل عن وجود حالة ثقافية مؤسّسية، داعمة. ومع انطلاقة حركة التحرر الوطني (أواسط الستينات) بات يمكن الحديث عن نشوء حيز ثقافي فلسطيني خاص (بالمعنى النسبي)، موازٍ للحيز السياسي «المستقل»، الذي نشأ و»اصطنع» مع وجود الفصائل الفلسطينية المسلحة، في بعض البلدان العربية، ولاسيما في لبنان. لكن هذا الحيز، على رغم أهميته، قصر عن التغلغل في مختلف التجمعات الفلسطينية، لصعوبة ذلك، ذاتيا وموضوعيا. أيضاً، أحاطت بعملية خلق هذا الفضاء الثقافي الخاص مشكلات وسلبيات، أهمها، طغيان الطابع العاطفي/الشعاراتي/العسكري على الفصائل، على حساب طابعها العقلاني /السياسي/الجماهيري. وهيمنة العلاقات الأبوية والمزاجية فيها بدل العلاقات المؤسسية والديموقراطية. وسيادة نمط التعامل الفوقي مع المجتمع، وضعف المشاركة السياسية، وتفشي روح الوصاية الفصائلية على القضية والشعب. وفاقم ذلك سيطرة الاتجاه المحافظ في الساحة الفلسطينية الذي حدّ من إمكان تخليق ثقافة حداثية فيها؛ برغم أنها كانت تعجّ بالشعارات والأيدلوجيات (الوطنية ولقومية والدينية واليسارية)؛ بما هي شعارات وأيدلوجيات رغبوية وإرادوية لا نقاش فيها. وفي الممارسة العملية فقد استخفت الفصائل، التي تخضع لسلطة «الأبوات»، بالثقافة، وبالعاملين في حقلها (بأنواعه الفكرية والأدبية والبحثية والفنية)، وهي التي روّجت لقولات من نوع: «اللقاء في أرض المعركة»، و«زغرد بربك يارصاص واخرس بربك يا قلم»! و»البرنامج السياسي ينبع من فوهة البندقية»! وكان عدد أجهزة الأمن، وموازناتها أكثر وأكبر بكثير من عدد مراكز الأبحاث والمراكز الثقافية، وكان للأبوات وقادة الأجهزة العسكرية والأمنية الدور المقرر في صياغة الساحة الفلسطينية بشعاراتها وبناها، وأشكال عملها، وحتى أن بعض هؤلاء باتوا مقررين بشؤونها الثقافية، أو مايصلح لذلك وما لا يصلح! وبرغم تمكن الفصائل، في تلك المرحلة، من استقطاب وإنتاج عدد كبير من المثقفين والباحثين والصحافيين والفنانين ( كناجي علوش ومنير شفيق وداوود تلحمي وجميل هلال ويحيى يخلف ورشاد أبو شاور واحمد دحبور وخالد أبو خالد وحسن البطل وبلال الحسن و ماجد أبو شرار ومنير شفيق ونزيه أبو نضال، مثلا)، بفضل الصحف والمجلات والكتب التي أصدرتها، إلا أنها لم تنجح في نسج علاقات تفاعلية وتداولية، وتوليدية معهم، فهذه العلاقة ظلت مشوبة بنوع من التوجس والاستخفاف، أو من الكره والحذر، في آن معا. وفي ظل هذه الأوضاع تموضعت الثقافة والعاملين فيها ضمن قوالب معينة، بحيث تحددت وظيفتها مسبقا في الدعاية والتحريض. وبذلك باتت الثقافة، بالنسبة للفصائل، مجرد ملحق بها، للتبرير والتجميل، وليس للفحص والنقد والتدبير. وبات المثقفون في الفصائل، في معظم الأحوال، مجرد ديكور أو تابع، بدل أن يكونوا قلبها وروحها الحيّة والمجدِّدة. أما خارج ذلك، أي خارج علاقات الامتثال والتماثل فكانت علاقة المثقف الفلسطيني بالقيادات الفصائلية علاقات متوترة، ومتنابذة، ولم تكن علاقات تكامل وتعاضد. وأمثلة ذلك كثيرة، في علاقة القيادة الفلسطينية بمركز الأبحاث ورئيسه أنيس صايغ، وبالأمين العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين ناجي علوش، وبإدوارد سعيد، مثلا، كما في علاقة هذه القيادة الفوقية بكل المؤسسات الثقافية والبحثية، التي عملت على تهميشها، على الرغم من إنها كانت تعمل تحت رعايتها. أما بالنسبة للعلاقة بالثقافة والمثقفين خارج الفضاء الفصائلي الفلسطيني فلم تكن ايجابية البتة، إذ هيمن المجال الثقافي الفصائلي، على المشهد الفلسطيني، بفضل تمتع العاملين فيه بموارد سلطوية، معنوية ومادية، وليس بفضل المواهب والابداعات، وهي إن لم تكن قليلة على أية حال، إلا أنها لا تعطي أحدا الحق باحتلال كامل المشهد الثقافي الفلسطيني، أو حجب واستبعاد المشهد الثقافي غير الفصائلي. في كل الأحوال فإن الثقافة الفلسطينية التي ارتكزت على الشمولية، وقدست السلاح والقضايا، على حساب الناس وتطور المجتمع، أدت إلى طمس الصوت الخاص والمتفرد للمثقف، بدعوى ثقافة «الالتزام»، على حساب ثقافة الإبداع، وثقافة التطوير والتغيير والتحديث. في هذه الحال لم يكن ثمة مجال للمثقف المستقل (بمعنى عن الفصائل) لتوليد حالة ثقافية خاصة، فليس ثمة سلطة البتة لهكذا مثقف، ليس له صحيفة ولا منبر ولاجامعة، وهو بالأصل ليس له مجتمع محدد في حيز جغرافي خاص به. ومعلوم أن سلطة المثقف تستمد من جمهوره، أو من قرائه ومتابعيه، ومثلما أن المثقف العربي، يفتقد لهكذا سلطة، بواقع تدني نسبة القراءة والاهتمام بالثقافة في المجتمعات العربية، وبواقع هيمنة السلطة السياسية على الحيز الاجتماعي، فإن وضع المثقف الفلسطيني أكثر تعقيدا، وأكثر صعوبة. الأنكى من ذلك أن الثقافة الجمعية أو الجماهيرية للمجتمعات الفلسطينية، التي تأسست على استعادة الماضي والعواطف والثأر، تغذّت من ثقافة «الأبوات» (من قادة الفصائل)، التي كانت تفتقر لثقافة المسؤولية والعقلانية والنقد والمحاسبة، في وضع احتلت فيه الفصائل، ومارست (كل بحجمه)، مواقع وسياسات سلطوية وشمولية في المجتمع الفلسطيني، ما أدى إلى استبعاد النخب والفاعليات الثقافية والاقتصادية عن التقرير بالشأن الفلسطيني، وهمشت المجتمع المدني، ما يتناقض مع الثورة التي يفترض أنها تعتمد على استنهاض قوى المجتمع. بعد قيام كيان السلطة لم يختلف المشهد السلبي لعلاقة المثقف والثقافة بالسياسة، ذلك أن أفول مشروع التحرر الوطني أدى إلى تنامي النزعات والعصبيات السلطوية/الفصائلية، مع نزعات الفساد والمحسوبية والزبائنية، في التعيين والتوظيف، في كيان يعتمد على الخارج أكثر بكثير مما يعتمد على موارد شعبه. ويكفي أن نذكر أن القناة الفضائية للسلطة لم تتمكن من فرض نفسها، ولا أدري إن كان ثمة إذاعة، وأن مجلة «الكرمل»، التي تعب على اصدارها الشاعر الراحل محمود درويش، توقفت عن الصدور. وعلى حد علمي لم تنشئ السلطة أي مركز للأبحاث، والصحف التي تصدرها لم تستوعب أي كاتب أو مثقف فلسطيني من الخارج وكأن هؤلاء لا وجود لهم! والواقع فإن اختزال القضية بمجرد كيان في الضفة والقطاع أدى إلى قصور وعي السلطة، وضمور مشروعها الوطني/السياسي والثقافي، وقاد إلى استبعاد الفلسطينيين «الآخرين» (المبدعين والمثقفين والأدباء والشعراء والكتاب والفنانين والباحثين والصحافيين)؛ من خارج كيانها الافتراضي. ومعلوم أن هؤلاء ليس لهم أي منبر فلسطيني خاص، وهم على الأغلب يفرضون أنفسهم باجتهاداتهم، في المنابر العربية، لاسيما في لبنان والخليج العربي (مع الأردن وسورية). هكذا فإن أزمة الثقافة، والعلاقة بين المثقف والثقافة وبين السلطة، هي نفسها أزمة العلاقة بين السلطة والمجتمع، وهي أزمة وعي لمشروع المواطنة والحداثة والديموقراطية، وما يتعلق بالواقع العربي يشمل الواقع الفلسطيني أيضا؛ برغم كل الضجيج عن حركة التحرر الوطني، وعلى الضد من مستلزماتها. * كاتب فلسطيني.