تمثل لوحات رمبرانت وفيرمير وهالز في تاريخ الفن الأوروبي (في القرن السابع عشر) حالة استثنائية. لا يختلف اثنان من المؤرخين أو النقاد حول تفوق أصالة كوكبة عباقرة هذه الفترة على نظائرها الأوروبية، وذلك رغم ضيق مساحة هذه البلد وتنازعها البقاء مع مساحة البحر، وتواضع عدد السكان (بما لا يتجاوز المليون ونصف المليون). يتأكد هذا الاستثناء تاريخياً في تلك الفترة من خلال الاحتكار التجاري والثراء الاقتصادي الفاحش، والاستقرار الاجتماعي المتسامح دينياً، في وقت كانت تتفوق فيه أوروبا في الحروب الدينية والأوبئة، والأزمات الاقتصادية الحادة. هو ما هيأ داخلياً في هولندا (الأراضي المنخفضة) إلى الازدهار الثقافي والفني الاستثنائي، وتجاوز خصوبة جدران المتاحف والقصور وارتفاع مستوى الذائقة العامة إلى زيادة الصادرات الفنية، بخاصة لوحات الفواكه والطبيعة الصامتة والزهور والمناظر على الطريقة الهولندية، هي الحافلة بطواحين الهواء المعروفة. من الملاحظ إدخال بعض معالم روما في هذه البيئة الجغرافية الخاصة، وذلك خضوعاً للذوق «الايطالياني» العام في أوروبا والمسيطر في تلك الحقبة. يشتمل المعرض البانورامي على مئة وثلاثين عملاً فنياً، أعارها متحف أمستردام المركزي (نظير «متحف اللوفر») إلى «متحف بيناكوتيك» الباريسي. مسجلا مسيرة الازدهار الفني الهولندي خلال قرن من الزمان، وبالتحديد ما بين 1584 و 1702، هي الفترة التي شاعت شهرتها تحت صفة «الذهبية». يحمل المعرض لذلك عنوان: «العصر الذهبي الهولندي: من رمبرانت إلى فيرمير»، مستمراً حتى منتصف شباط 2010. لعله من حسن حظ المتحف الباريسي (حيث يقام المعرض) أن متحف أمستردام يخضع لأشهر عمليات الصيانة والترميم. يشتمل المعرض على ستين لوحة زيتية معروفة إضافة إلى رسوم ورقية ومناظر من الألوان المائية والأحبار واللافي والعديد من المحفورات الطباعية وصولا حتى الى تصاميم الحلي والمجوهرات. لا يقل دور المعلم رمبرانت بالنسبة إلى التصوير العالمي عن قوة تأثير جان سبستيان باخ في الموسيقى، عرف بطريقته الروحانية الرائدة في توزيع الظل والنور أو بالأحرى ترصيع البؤرة الضوئية في فراغ ليلي مترامي الأطراف، طبق هذه الطريقة على الموضوعات التوراتية، وعلى موضوعات حرة مثل لوحة «المسلخ» والتي لم يفلت من تأثيرها التعبيريون حتى اليوم مثل سوتين وغوتوزو، لكن أشهر أعماله الوجودية التصوفية تمثلها مجاميع لوحات «الأوتوبورتريه» التي صورها عن وجهه في المرآة، تبلغ مئات من اللوحات التي تترصد مآسي حياته المديدة منذ كان شاباً ثم فقد ابنته ثم زوجته أميرة لوحاته، ثم أخذ يصور عزلته التي تقطر بالحزن الوجودي، حتى انطفأ ضوء شعلته وريشته ومنقار محفوراته. يليه في الأهمية جان فيرمير بسبب ندرة لوحاته بعكس سابقه، فهي لا تتجاوز عدد أصابع اليدين بقليل، ولكنها تكوينات داخلية مدهشة بالغة الحميمية، بعضها من أشهر اللوحات في العالم مثل « بائعة الحليب» يصور بيوتات أمستردام بعكس الضوء وضمن درجات نورانية مذهلة، بخاصة مع تتالي المداخل والستائر. تعتبر لوحات الاثنين اليوم من أغلى الأعمال الفنية المتحفية في العالم. يناظر الاثنين في الأهمية والتعبير عن الخصائص الواقعية في التصوير الهولندي المعلم فرانز هالز، هو الذي يصور بمجون فرشاته السخية باللون والنور الأشخاص الشعبيين العابرين، كثيراً ما يقتنص ضحكات وعبث المخمورين منهم أو الصعاليك الهائمين على وجوههم أو المشردين أو المعوزين، مع ذلك فإن تأمل عوالم الثلاثة وسواهم من المدرسة الهولندية يكشف بعمق مدى ثراء البعض في تلك الفترة برياشهم وألبستهم البورجوازية المنمقة، لكن عمق أصالة هذا التراث التصويري تقع خلف هذه المظاهر البراقة.