أينما ذهبت أرى أثراً فنياً لحرب. ليس بالضرورة معارك أو قتلى وجرحى. ربما رمز أو إيحاء أو حالة. لفتتني الظاهرة فأخذت أتأملها. مثلاً: في فناء متحف «أمويا AMOYA»، اسمه اختصار لكلمات: متحف الفن الشاب، في مدينة براغ القديمة، تصدمك رؤية أربعة مسدسات ضخمة متواجهة معلقة على كل زاوية من زوايا الفناء المربع. في متحف الفن الحديث في مركز بومبيدو في باريس، شاهدت مجسماً: انه كرسي يتكون من أسلحة مستعملة، للنحات الموزمبيقي جونزالو مابوندا. قال إنها من مخلفات الحرب الأهلية في موزمبيق وسماه «عرش عالم بلا ثورة». إنه يستخدم أسلحة مستهلكة ومعدات عسكرية في كل أعماله النحتية ليبدع جمالاً من أدوات الموت! كل منحوتة تمثل الشخص الذي مات بالسلاح نفسه الذي يستخدمه النحات. في المتحف أيضاً صور فوتوغرافية للفنان اللبناني وليد رعد لمشاهد حرب من لبنان. كرس هذا الفنان وغيره من الفنانين اللبنانيين أعمالاً فنية كثيرة ومتنوعة للحرب الأهلية اللبنانية. في مصر أقام الفنان أحمد نوار معرضا في قاعة أفق 1، سماه «الشهيد» والمعرض واضح من عنوانه. أعاد فيه الفنان صياغة مشاهد من الحرب والاستشهاد بأسلوبه الهندسي المميز، مازجاً إياه بتحويرات عضوية من أدوات حرب وأجساد شهداء خلقت تصورات جديدة. اتخذ من ألوان العلم المصري ألواناً أساسية في كل لوحة، وختم كل لوحة أيضاً في شكل العلم نفسه في مكان ما من اللوحة. شارك أحمد نوار في حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973 وسجل فيها بطولات بقنص عدد من جنود العدو. هذه الحرب ظلت معه في أعماله الفنية حتى الآن. حوَّل فنانون في فلسطين أجزاء من جدار الفصل العنصري، الذي بنته إسرائيل في الضفة الغربية، إلى أكبر معرض فني في العالم. صوروا عليه ما يودون تحققه في الواقع وعبروا عما يمور في نفوس الفلسطينيين. هل تذكرون غزو العراق من دول التحالف الغربي الذي بدأ في آذار (مارس) 2003؟ وقتها انفجرت موجات من الأعمال الفنية المضادة للحرب في العالم كله. ربما أقلها في العالم العربي وأكثرها في دول التحالف نفسها! كان الفن الذراع البصري للاحتجاج ضد الغزو. من الطبيعي أن يكون الفن ضد الحرب، أي حرب. أي ضد القتل والموت والفناء. لأن الفن إبداع، ولا إبداع في الموت. تتعدد الأسباب والموت واحد. لكن يمكن تمجيد الحرب إن كانت تستحق التمجيد. أقصد الحروب الوطنية، حروب تحرير الوطن من الاستعمار الأجنبي أو تحريره من الديكتاتورية المحلية. هناك نوع ثالث من الأعمال هي الموجهة أو الشوفينية أو العنصرية، مثل التي استعملها الطغاة والسفاحون عبر التاريخ. هذه أعمال لا تستحق شرف صفة الفن. كان العام الماضي ذروة استعادة الحرب في معارض الفن في كثير من دول العالم، لمناسبة الذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى. حتى في ليبيا أقيم المعرض العام الأول للفن التشكيلي في مدينة مسراتة، شارك فيه 35 فناناً ليبياً في مسعى لإظهار أهمية الفن في التقريب بين أبناء الوطن الواحد المنقسم على نفسه. على رغم أنه لا يوجد في ليبيا قاعات للعرض ولا متاحف للفن التشكيلي. هذا من غرائب حكم القذافي الطويل. لا يحتاج العالم لذكرى الحرب العالمية الأولى أو الثانية، فالعالم يعيش في حرب مشتعلة، إن لم تكن في الواقع فهي في وسائل الإعلام والاتصال. معظم الأخبار اليومية عنها بخاصة في عالمنا العربي. هذا غير الحرب المزمنة في أفغانستان والحرب الجديدة في أوكرانيا وحروب أهلية في أفريقيا وأميركا اللاتينية وهلم جرا. الحرب ضد الإرهاب في كل مكان تقريباً. فهل يبقى الفن متفرجاً؟ بالعكس، الفن في قلب الحرب أو الحرب في قلب الفن. هكذا كانت العلاقة منذ عرفت البشرية الفن. ذلك أن الحرب تمثل أقصى درجات التوتر في الحياة، الذروة التي بعدها الانتهاء. التوتر هو العقار الذي يتعاطاه الفنان ليبدع. كلما زاد التوتر ارتفعت شحنة الإبداع. حتى في تصوير الطبيعة الميتة أو الصامتة أو الطبيعة الحية أو تصوير الكائنات. الحرب جزء من تاريخ الفن، كل أنواع الفنون وليس التشكيلي فقط. إذا نحَّينا رسوم صراع الإنسان مع الحيوان في كهوف ما قبل التاريخ، نجد تاريخاً مسجلاً لعلاقة الفن بالحرب في كل الحضارات المختلفة منذ فجر التاريخ وحتى الآن، نشاهدها عبر أعمال فنية لا تحصى لفنانين مجهولين ومعروفين لأن الفن لم يتوقف والحرب لم تنتهِ، ولن ينتهيا إلا بنهاية البشرية. كان القرن العشرون مختلفاً في هذه العلاقة عن كل تاريخ الإنسانية السابق، مثلما كان مختلفاً في مجالات الحياة كافة، لأنه شكَّل نقلة نوعية جذرية فيها. بدأت بالحرب العالمية الأولى التي حركت التغيير في المجالات كافة بما فيها الفن التشكيلي، بأكثر مما فعلت الحرب العالمية الثانية. ربما لأنها الصدمة الأولى للعالم في دخول أتون بمثل هذا الجنون، وربما لأن الفترة الزمنية بين الحربين كانت قصيرة. يبدو أن العالم لم يشبع من حرب واحدة فألحقها بالثانية بعد 22 سنة فقط. كان الفن الطليعي يعيش أوج ازدهاره في الفترة التي سبقت مباشرة الحرب وبرز فيها فنانو حركات الجسر والفارس الأزرق في ألمانيا، والمستقبليون في إيطاليا والعاصفة في إنكلترا والتكعيبية في فرنسا، ثم «الدادا» في سويسرا. شهدت الحرب تجنيد عدد من الفنانين التشكيليين على جبهات القتال. رسموا على الجبهة أعمالاً بتكنيكات وخامات بسيطة وبأحجام صغيرة كما فعل أوتو ديكس وبكمان وزادكين وغيرهم. منهم من تطوع من تلقاء نفسه كي لا يحسب مع «الجبناء»، أو حتى يجرب الحرب ليعبر عنها فنياً! كما فعل ماكس بكمان، الذي تحتاج علاقته العجيبة بالحرب إلى دراسة مستقلة، وغيره. منهم من مات فيها ومنهم من تحمس لها مثل المستقبليين الإيطاليين بقيادة مارينيتي والفنان فرانز مارك الذي رأى فيها «تطهيراً» وكتب من الجبهة للفنان كاندنسكي يقول: «إن العالم القديم منافق وكاذب ومتظاهر ولا أخلاقي...». هذه بالطبع رؤية رومانتيكية للحرب لا يراها من أشعلها ومن دفع بالجنود وبالشعوب في لظاها. فالحرب تخاض لأسباب أخرى بعيدة من رومانتيكية الفنانين. لم تعد المسألة عند الرسامين توثيقية صرفة، وإنما أطلقت ريشة الرسام لتفسر الأشياء في شكل إبداعي، وأيضاً بالنسبة إلى الجنود أصبح الخيال طريقة للهروب من واقعهم اليومي وابتكروا ما أطلق عليه فن الخندق. على العكس من موقف السرياليين الذين عارضوا الحرب من اللحظة الأولى. هاجر بعضهم هرباً منها مثل روبير دولوني وهانز آرب. فرضت الحرب نفسها على اللغة الفنية وتركت آثارها في أسلوب كثير من الفنانين وفي شخصياتهم أيضاً. من التحولات الملحوظة مثلاً ما حدث لبيكاسو بابتعاده عن التكعيبية وفتح الطريق أمام تيارات فنية جديدة بعد الحرب الأولى. كانت هذه الحرب المرة الأولى التي يغطي فيها المصورون المحترفون والهواة صراعاً كبيراً في شكل كامل. كان دور فنانين خلال هذه الحرب مهماً حيث كانت حكومات الدول ترسلهم إلى جبهات القتال لرسم صور من هناك ونقلها إلى الناس ليتعرفوا على مجريات القتال. كان هذا بديلاً عن الدور الذي قامت به وسائل الإعلام بخاصة التلفزيون بعد ذلك. كان جيلبرت روجرز متخصصاً في ما سمي اللوحات الطبية في الحرب الأولى، تصور إسعاف الجرحى والعناية بهم. هكذا ترك لنا أمثال هؤلاء الفنانين سجلاً لمجريات الحرب غير تركهم أعمالاً فنية معبرة عنها وعن موهبة وقدرة كل فنان. أثارت رسومات جورج جروس الألماني الساخر العارية وانتقاداته للمجتمع غضب الكثيرين. تأثر هذا الفنان بالحرب العالمية الأولى، ورسم مجموعة من الرسومات بعنوان «الخلفية» عن الصدمة التي خلَّفتها هذه الحرب والتشويش الاجتماعي والأخلاقي. رسمها أصلاً لرواية «الجندي المطيع» للكاتب التشيكي روسلاف هاشيك التي حوَّلها برخت وغيره إلى مسرحية. نشر الرسوم في كتيب العرض عام 1928 في ذكرى نهاية الحرب الأولى. في لوحاته كثير من الوجوه العسكرية والكثير من الجنود الذين رسمهم بنوع من الازدراء، وصور حياتهم بعد الحرب. كان جروس معارضاً للعسكرية فكراً وسلوكاً. لم يرَ بابلو بيكاسو في لوحاته متعة خالصة فقط، وإنما كان يرى في الفن سلاحاً سياسياً. كان الفنان الإسباني يعيش في باريس، قبل أن تأتيه الأخبار المقلقة من بلاده التي اشتعلت فيها حرب أهلية. في 26 نيسان (أبريل) 1937 قصفت المقاتلات الألمانية وحدة النخبة من فيلق الكندور المختبئة في مدينة غيرنيكا، مخلفة أكثر من 1600 قتيل و800 جريح. لم يبقَ من المدينة سوى الركام والرماد. كانت ردة فعل بيكاسو على ذلك العمل الوحشي أن رسم لوحته الشهيرة متخذاً بذلك موقفاً واضحاً بجانب الجمهوريين ضد الديكتاتور فرانكو وأتباعه، وضد تدخل النازيين. هذا العمل هو الأضخم والأقوى من بين جل أعمال بيكاسو الثمانية آلاف التي أنجزها في حياته. نقلت الحرب العالمية الثانية مركز الفن التشكيلي الحديث من أوروبا إلى الولاياتالمتحدة الأميركية وتسببت بالتالي في ازدهار الفن الأميركي الذي لم يكن معروفاً من قبل. كانت البداية بهجرة عدد من أهم فناني أوروبا إلى الولاياتالمتحدة هرباً من الحرب، مثل ماكس ارنست وهانز هوفمان وفيرناند ليجيه واندريه ماسون وموندريان. تفاعلوا مع الأرض الجديدة وفنانيها فظهرت هناك في الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين: التعبيرية التجريدية والتصوير الحركي والبوب آرت الذي كان بداية لانقلاب في الفنون التشكيلية، ردت عليه أوروبا ب الأوب آرت (الخداع البصري)، وفي الستينات ظهر الفن المختزل... وهلم جرا.