أعلنت الأممالمتحدة أن 2010 عام التنوّع البيولوجيInternational Year of Biodiversity، ما يعني أن السنة التي تلاقي البيئة في أواخرها عبر مؤتمر «كوب- 16» في المكسيك، ستحفل بالنشاطات المخصّصة لحماية الأنواع الحيّة وحياتها على الكوكب الأزرق. إذا كان انقراض الأنواع الحيّة أبرز ظواهر التناقص في التنوّع البيولوجي، فهناك ظاهرة بيئية أخرى تبدو معاكسة للانقراض، وهي تكاثر غير طبيعي لأنواع من النبات والحيوانات، ولكنه تكاثر يساهم في خلخلة الحياة الطبيعية لكائنات أخرى، وأحياناً يؤدي إلى انقراضها. ويحدث ذلك بأثر من انتقال الكائنات الحيّة من فضائها الطبيعي إلى فضاء جديد. وتسمى هذه الظاهرة «غزو الأنواع» Species Invasion، التي تسير بقوة العامل البشري، وتعتبر أحد أبرز أسباب تدهور التنوّع البيولوجي. وتساهم في هذا التدهور عناصر مثل التلوث وتقطيع الفضاء الطبيعي عِبر بناء الطرقات والسدود، ما يؤثر في حركة الكائنات الحيّة وارتحالاتها. ولظاهرة غزو الأنواع عواقب صحية وبيئية واقتصادية على المنظومة الطبيعية بأسرها، وضمنها الإنسان. دروس التاريخ الطبيعي يفيدنا التاريخ البشري كثيراً في هذا المجال. في أزمنة سابقة، أدى الانتشار غير الطبيعي لبعض أنواع الكائنات إلى آثار وخيمة على البشر والطبيعة، مثل جائحة الطاعون الذي تسبب في هلاك عشرات الملايين من الناس عبر التاريخ، وجاء بفعل زحف الجرذان التي تنقل معها فيروس المرض. وكذلك أدى تكاثر الجرذان للقضاء على الزراعة في كثير من الجزر. وأدى الطاعون والفئران دورهما في انقراض مئات من الكائنات الأخرى. وكذلك يرد في أمثولات التاريخ عن وصول نوع مُفرد من الحشرات من أميركا إلى فرنسا في القرن التاسع عشر، قضى على 80 في المئة من مزروعات العنب الفرنسية. ويرد أيضاً انه خلال الحملات الاستكشافية والاستعمارية حمل البحارة الأوروبيون معهم الكثير من الحيوانات والنباتات والمزروعات، وتركوها في محطات مرورهم. وفي المقابل، نقل أولئك البحارة إلى أوروبا حيوانات وتوابل وخضر ومحاصيل غير مألوفة مثل البطاطا والبندورة (الطماطم) والذرة والفلفل والديك الرومي. وكخلاصة، قد يساهم انتقال الكائنات بين القارات في بناء الحضارة، وقد يغدو عنصراً فاعلاً في تخريبها. واكتسحت الكائنات الحيّة أماكن عدة من كوكب الأرض، قبل ظهور الكائن البشري بملايين السنين. ومع ظهور البشر وتطور الحضارة، ازدادت وتيرة الغزو البيولوجي، الذي تصاعد مع أزمنة الاكتشافات الجغرافية والحملات الاستعمارية والثورة الصناعية. وثمة انطباع بأن للعولمة وزيادة التبادل التجاري بين الأمم، أثراً على زيادة الزحف غير المباشر للأنواع. مثلاً، لا يستلزم نقل نباتات التزيين، التي تتضمن حشرات وكائنات ميكروسكوبية أخرى، من بلد إلى آخر، إلا وقتاً وجيزاً مقارنة مع أزمنة سابقة. وخلال 12 ساعة بالطائرة أو 20 يوماً بالباخرة، تنتقل النباتات من سنغافورة إلى لندن. وإذا عانت أوروبا سابقاً من أنواع آتية من أميركا، فهي تعاني الآن من أنواع أخرى آتية هذه المرة من آسيا وذلك لأسباب اقتصادية تتعلق بظهور قوى اقتصادية كبيرة في شرق آسيا. وأنجزت دراسات كثيرة وموسّعة عن «الزحف البيولوجي» من مختلف القارات في اتجاه القارة الأوروبية، شملت 11 ألف نوع نباتي وحيواني استقرت في القارة العجوز منذ القرن السادس عشر، أي منذ انطلاق الحملات الاستعمارية والاستكشافية. وخلصت هذه الدراسات إلى أن 11 في المئة من هذه الأنواع له أثر بيئي واضح على المحيط الطبيعي و13 في المئة منها يضر مباشرة بالنشاطات البشرية. كما بيّنت أن 60 في المئة من الأنواع المهاجرة رغماً عنها، تتكوّن من النباتات، خصوصاً الصنوبريات والأزهار، و23 في المئة تأتي من الحشرات و10 في المئة عبارة عن فقريات. ووصل نصف النباتات المُهاجرة إلى أوروبا بين مطلع القرن السادس عشر ونهاية القرن التاسع عشر، وربعها بعد 1962 وعُشرها بعد 1989، ما يوضح كثافة الاكتساح مع تطور النقل. وتستقر غالبية الكائنات في بلد الاستقبال الأول، لكنها قد تنتقل في حالات نادرة إلى بلد ثان أو أكثر. وقد نجد استثناءات في صنف أو أكثر من الكائنات التي استطاعت أن تصل إلى 30 أو 40 بلداً. وانتقلت 68 في المئة من النباتات ومعظم العصافير والطيور و80 في المئة من الثدييات، الى أمكنة بعيدة عن مواطنها الأصيلة بأثر من إرادة الإنسان. ويندرج الاقتصاد ومشروعاته الكبرى ضمن الأسباب التي تؤدي إلى انتقال كائنات من محيطها الطبيعي، كحالتي قناة بناما وقناة السويس. ففي الحالتين، انتقلت الأسماك والنباتات البحرية من الجهة العليا إلى الجهة السفلى من المجرى المائي الذي يصل بين بحرين ظلا مفصولين عن بعضهما البعض ملايين السنين. وهناك كائنات تعْلق في أسفل البواخر وتنتقل بالتالي من مكان لآخر. وتؤدي المحيطات دورها في انتقال الأصناف الحية، على غرار الدور الذي تؤديه الشبكة العنكبوتية في نقل المعلومات. كما يساهم نظام البواخر في هذا الأمر. فنظراً لأنها تأخذ من المسطحات المائية التي تعبرها وترمي فيها، فإنها تساهم في عملية انتقال الكائنات الحية من مكان لآخر. إيجابيات الزحف البيولوجي ثمة وجه آخر إيجابي للزحف البيولوجي، مثل تعويض نقص الكائنات في المناطق الرطبة، وكذلك تعويض الجبال عما تفقده بأثر من الاكتساح البيولوجي. ولمواجهة هذه الظاهرة البيئية ومعالجتها، لا بد من معرفة متى وكيف ولماذا انتقلت الكائنات، وليست هذه بمسائل سهلة. وأحياناً، يقتضي التصدي لزحف أحد الأنواع، مواجهته بنوع حيّ آخر! وساهم الإنسان في انتقال الأنواع الحيّة، كما أن تنقلات النوع الإنساني وارتحالاته أدت الى نقل ميكروبات جديدة، رافقتها أحياناً أوبئة، مثل انتقال فيروس «حمى النيل الغربي» West Nile Fever من موطنها في أفريقيا الى الولاياتالمتحدة في العام 1999. وثمة جانب جمالي في هذا الموضوع أيضاً، إذ يقبل الناس وجود كائنات نباتية أو حيوانية جميلة، على رغم ضررها للطبيعة، وقد يرفضون كائنات أخرى ذات منظر منفر أو مرعب، على رغم فائدتها للطبيعة. ويبقى أن الإنسان هو أكثر الأنواع الحيّة غزواً وانتقالاً. وتمدّد وجوده على حساب الأنواع الحيّة الأخرى، بل أنه «طغى» على جميع الكائنات في المحيط الطبيعي. وسيطر البشر على الكوكب الأزرق برمته، ثم شرعوا في انتهابه، من دون مراعاة حق الأجيال المقبلة. ولم يلتزم الإنسان بأن وجوده على رأس هرم الكائنات لا يعطيه حق التصرف في الطبيعية كلها، بما في ذلك مصيره بالذات. وتلك «مسؤولية كونية» أيضاً، إذا أخذنا ندرة الحياة في الكون، بحسب معارفنا العلمية حاضراً. بالنسبة لظاهرة الجراد التي تهم المنطقة العربية بحسب علماء التنوّع البيولوجي، فإنها لا تشكل خطورة بيئية ذات أهمية كبيرة بالنظر الى طابعها الموسمي، وعلى رغم كلفتها الاقتصادية الكبيرة. وساهمت قناة السويس في حركة انتقال كثيفة للكائنات الحيّة بين البحرين الأحمر والأبيض، بحيث استقرّت في المتوسط أنواع كثيرة لم تكن تعرفه في زمان ما قبل قناة السويس.