أنا مش كافر.. بس الجوع كافر! أنا مش كافر.. بس المرض كافر! يا زياد، المرض جوع آخر. الجوع كافر وقاتل.. للإنسانية، للحياة، للطفولة. كافر بكل شيء يؤمن بضرورة الألم والقهر. ببساطة كنت أعرف كل هذا؛ لكن المعرفة ليست هي الإحساس، أو أنها إحساس متعال. أن تعرف أكثر: أن تتألم أكثر! كم يلزمنا من الألم لنتجنب المتاعب؟ يبدو أن الحياة ألم ينتهي بالموت! كنا أربعة، وواحد يسكننا. ربما أقول كنا خمسة، أربعة على الأرض وآخر ليس على الأرض. لم يرغب أحد في وجوده. اجتمعنا حول كيس فيه أشياء لم أستطع تميزها. بقايا تشبه الطعام، بعض الجراد والدود وفتات الخبز. ليس بينها فارق فاللون واحد، والطعم، والرائحة التي تشبه الجثث المحنطة. عيونهم كانت تتطلع إلى الكيس بنظرات مختلفة: أحدهم كان ينتظر الوليمة الأخيرة، والثاني كان ينتظر شيئاً مختلفاً. وقفت على الباب وقلت: - الكيس فارغ! قفز صديقي وجذبني إليه بقوة وصرخ: - فففارغ؟ مممماذا تقول؟ أعطني إياه أيها المخادع. تمالكت أعصابي، ونفضته الكيس أمامه.. ثم عدتُ إلى مكاني. أشار إلي وقال: - لا أستطيع أن فهم هذا، الكيس كان ممتلئاً قبل ثلاثة أيام وكان بحوزتك.. كيف حدث هذا؟ صمت الغريب ليس طبيعياً، ربما يكون المسؤول، أو على الأرجح يعرف السبب. على أي حال سأحاول ألا أدخله إلى دائرة الشك. سرت إلى النافذة التي كانت مصدر الضوء والهواء الوحيد في تلك الحجرة الرطبة، قلت له كأنني أوجه الخطاب إلى شخص أمامي: نعم كان الكيس ممتلئاً قبل ثلاثة أيام، والآن كما ترى. فلنجد حلاً لهذه المشكلة! - هذه مشكلتك. الذي يعنيني هو الطعام فقط! أعرف رعونته جيداً غادرت المكان متظاهراً بالبحث عن طعام. لم يبق في هذه البلدة أحد. أنظر إلى السماء فلا أثر للسحاب، أما الشمس فإن أشعتها تصهر الرمل تحت قدمي! منذ أشهر لم تمطر السماء. يقول كبار السن: القحط يصيب هذه الأرض كل فترة. هاجر معظم أهل البلدة، بعضهم مات في طريقه، والبقية فضلوا انتظار الموت هنا. كانوا يتمنون المطر أو موتاً سريعاً. لم أعد أذكر الأسباب التي أقنعتني بالبقاء، ربما فضلت أن يأتي إلي الموت لا أن أذهب إليه، أو أن قلبي أدمن كآبة السفر فسيجده كآبات هنا، أو أن الحياة أصبحت لا تعني لي الكثير، وهو ما معنى أن أموت بحثاً عن الحياة، بحثاً عن آلام جديدة. قد تكون هذه أسبابي أو أسباباً أخرى، لا فرق فالجوع واحد! عندما رحلوا تركوا هنا بهائمهم النافقة. في البداية تضجر الباقون منها عندما تفسخت في الطرقات؛ فاجتمع الثالوث الأسود: الجوع، والعطش، والمرض، فدفنوها بعدما غطت رائحتها البلدة. تتابع نفوق البهائم لكن لم يتركوها تتفسخ، بل سارعوا إلى تقطيعها وتجفيفها. اختفى كل شيء له علاقة بالحياة، حتى الشجر المعمر اقتلعت جذوره، وسلقت مع الدود. عدت إلى البيت فقد خشيت أن أموت وحيداً. وصلت، فوجدت ذلك الغريب جالساً إلى جوار ابنه المريض، وصديقي يركله بشدة ويصرخ بصوته الحاد: - لماذا أكل ابنك طعامنا؟.. لماذا؟ - إنه طفل! - لا يهمني، فلتذهب طفولته إلى الجحيم! - وهل هناك جحيم غير هذا الجحيم؟! أمسكت صديقي وقلت: - لا شيء يعود، قد نجد ما نأكله غداً. نظر إليَّ باشمئزاز، وبصق في وجهي. فكرت في تأديبه، لكن لم أقوَ على الوقف. أخرجت سكيناً من جيبي فاحتمى بالغريب، وانتظر حتى تيقن أنه مجرد تهديد. لم أكن أنوي إيذاءه. كنت أخفي عجزي أمامه. كشف الغطاء عن وجه الطفل وهتف بتشفٍ: - لقد مات ابنك، لقد مااااااااااااااااااااااااااااااااات. قال الغريب بنبرة موغلة في الحزن: - أعرف هذا. - تعرفه! منذ متى مات؟ - فجر اليوم؟ - طالما أنه سيموت لمَ أكل طعامنا؟ - هل كان يعلم هذا؟! ربما مات بسبب تلك البقايا الملوثة! - فليدفع الثمن. قال الغريب باستنكار» - ماذا؟ كيف سيدفعه؟ - سأريك الآن. باغتني وأخذ السكين، وانتزع الطفل ومرره على رقبته، فنهض الأب واسترد ابنه، فسبقه صديقي إلى الباب فلجأ الغريب إلى الركن، وألقى جثة ابنه في الركن، وانبطح عليه وبكى واستجداه. كنت أفكر في التدخل، ولم أقوى حتى على الوقوف، فلما طأطأ صديقي رأسه، وأغمض عينيه؛ استرحت قليلاً! لم يدم ذلك طويلاً حتى فقز إلى الغريب، ووضع السكين على رقبته، وقال له وبغيظ: - أعطني الجثة وإلا أوصلتك إلى ابنك. رد بصوت يمزقه البكاء: - لن أفعل. غرس نصل السكين في رقبته ومسح قطرات الدم بيده وأدخلها في فم الغريب وانتزع ابنه، وبدأ يلوح بالسكين في وجوهنا جميعاً!