تقول الكاتبة الإماراتية مريم الساعدي إن الكتابة بالنسبة إليها مناعة من السقوط في التخمة والألم. وتشير إلى أنها حين تكتب تكون إنسانة متوازنة، وأنها يمكن أن ترى بصورة أفضل كل الصور مهما كانت ضبابية. أصدرت الساعدي ثلاث مجموعات قصصية، «مريم والحظ السعيد» و«أبدو ذكية» برعاية مؤسسة محمد بن راشد في دبي، ضمن مشروع «أكتب» مجموعتها الثالثة «نوارس تشي جيفارا»، والتي وصلت للقائمة القصيرة في جائزة الشيخ زايد للكتاب، فرع المؤلف الشاب. ترجمت لها بعض القصص إلى اللغة الألمانية والهندية والأوردية، ضمن هيئة أبو ظبي للثقافة، كما ترجمت لها بعض النصوص للإنكليزية. وشاركت الساعدي في مهرجانات عدة، داخل الإمارات وخارجها. «الحياة» التقتها وحاورتها. إلى نص الحوار. «أنت وجدت فقط لكي أكتبك، وتنتهي حين أضع نقطة على آخر سطر».. كيف تكتب مريم الساعدي الآخَر؟ ولم هذه القسوة في النهايات، نقطة على آخر السطر؟ - أنا لا أكتب الآخَر، أكتب فقط نفسي من خلال الآخَر، الذي يشبهني وذلك المختلف، ثم الذي يختلف بعد أن كان يشبهني، ثم الذي يتخذ شبهي وظننته للأبد مختلف، الحكاية في الرؤية وكيف أن الرؤية الحاضرة لا يعوّل عليها كوقود أبداً. وفي حالات الانسياق العاطفي الواردة في النص الذي اقتبست منه هذه الجملة يكون للآخر دور حيوي؛ هو يحددنا، يذكرنا بملامحنا، يصبح وجوده تعريف وجودنا. الكتابة هنا تجيء لتذكرك أنك فاعل بذاتك، وأن في نقصك اكتمالك، واكتمال مشروط بآخر كسر لا يرمم. النقطة في النهاية ليست قسوة، هي فقط شمس تشرق بسطوع حاد بعد تلبد الغيوم. والشمس المشرقة طوق نجاة يُلقى عليك من السماء لينقذك من الغرق، فمرحباً بقسوة النقطة لو فيها انتشالك للحياة. «أكتب العبارة وأتجه إلى خانة المرسل إليه، أتوقف للحظات، ثم أتذكر أنّ لا أحد لديّ يمكن أن أرسل له هذه العبارة». الآخَر مرة أخرى القريب البعيد -الإنسان المحب-.. كيف نتواصل معه وسط فوضى الكلمات؟ - لو تواصلنا مع أنفسنا أولاً، مع ذواتنا، لما احتجنا إلى النبش في الكلمات وفي الخانات بحثاً عن مرسل إليه. هي دعوة لمحبة الذات قبل أي شيء، لاحتوائها. يظل البشر في بحث مستميت عن أشباههم القيّمون، يفقدون في رحلة البحث هذه الأكثر قيمة؛ ذواتهم. تظل الذات هناك، تلهث عطشاً، بانتظار التفاتتك إليها، لترويها باهتمامك، فيما تنشغل أنت بالبحث عمن يحبها، هي تريدك أنت، وأنت تريد لها آخر، أنت تظنها تحتاج إلى غيرك أكثر، وهي تريد أن تحبها أنت أولاً، انعدام التواصل هذا بينك وبين ذاتك ما يجعل خانة المرسل إليه دوماً خالية. «كلّ شيء لا علاقة له بك، لا وجود له...». هكذا اعتراف يجعل من إنسانيتنا ممكنة، ولكن حبيسة أيضاً بوجود الآخر، كيف لنا بحرية غير مقيدة حتى في الحب؟ - هي حالة العمى في الحب، حتى الحرية يصير لها مفهوم التلاشي في غيرك. هذا الشعور الطاغي الذي يظن الواحد أنه منتهى الوجود، يصير لكل الأشياء لون واحد حتى تشرق شمس الآخر فتلوّن الدنيا. هو فخ خطير نسقط فيه جميعاً، وبعضنا يسقط فيه للكثير من المرات طوال العمر وكلما تاب يعود. ولا يمكن تحقق حريتنا إلا بانتشال ذاتنا من فخاخ الانسحاق في الآخر، أياً كان شخصاً أم شيئاً، الانسحاق والانقياد عبودية، يجب أن تتحرر من كل ما يكبلها ويسحبها إلى الأسفل حيث لا تشعر بجدواها وقيمتها لو وقفت وحدها. على الإنسان اليقين بأن حياته مسؤوليته وحده وأنه خلق؛ لكي ينهض بها ولو لم يفعل هو ذلك فلن يفعله أي أحد لأجله، أياً كان. «يجب أن يتدخل المنطق حيث تخذلنا الحواس» (غاليليو غاليلي).. الساعدي مع المنطق أو تتبع حواسها؟ - أستطيع القول الآن إنني مع المنطق، ربما كنت أصدق في السابق أكثر بمقولة اتبع قلبك، الحقيقة أن القلب مضلل كبير، وفي أحيان كثيرة هو هادٍ، لكن كيف يمكن أن تميز بين الحالتين؟ عليك أن تكون متفرغاً ورائقاً كفاية للانتباه للفرق، وضجة الحياة تدخلك في دوامة ركض ولهاث للحاق بدقائق وساعات اليوم وحين تخلد إلى فراشك تدون قد نسيت أن تنتبه للفرق. وهكذا تتساقط من ذاتك رويداً رويداً حتى يأت يوم ولا تعد تعرفك. حينها لن تكون أنت ولن يكون سهلاً أن تعود إليك. ولكن في العموم سهل أن نقول هذا الكلام حين نكون خارج الصورة، ونصدق أننا أشخاص منطقيون، لكن يحصل أن تغافلنا الحواس فلا ننتبه إلا في المنتصف أننا سرنا في رحلة ونسينا اصطحاب المنطق معنا، تركناه هناك خلفنا وحيداً ينادي «أنا هنا صدقوني» ولا من مجيب في ضجة الحواس. «عندما لا نتفاءل، يتسوس الذكاء» (فيكتور هوغو). تبدين يائسة في بعض كتاباتك.. أينسحب هذا على مجمل حياتك أم أن هناك بارقة أمل تتمسكين بها؟ - اليأس فلسفة حياة. والأمل وقود لاستمرار فلسفة اليأس، فلولا الأمل لما يئسنا. ماذا يحبطك؟ سقف توقعاتك. وكلما هبط السقف كلما قل منسوب الإحباط في حياتك. لا تنتظر شيئاً، وهذه هي الوسيلة الوحيدة للوقاية من الخيبات.. وهذه قمة الأمل. «لا تقود الكتابة إلا إلى المزبد من الكتابة»(كوليت).. لماذا تكتب الساعدي وإلى أين تأخذها الكتابة؟ - أكتب لأتعامل مع نفسي. مع يأسي وآمالي، وإحباطي، وغضبي، وحيرتي، أكتب لأجدني لأعرف نفسي وأتعرف إليها. أنا من الأشخاص الذين يحتاجون إلى التعرف على ذواتهم باستمرار. أكون في الصباح غيري في المساء وفي الشروق غيري عند الغروب وحين أنام أكون غيري حين أستيقظ، أتلمس مشاعري، أتسقط أخباري، أخبار نفسي وهواجسي وأفكاري، لا أفكر كثيراً بأشياء خارجية، لا سلطة لي على شيء، سوى على ذاتي، ولذلك أريد أن أظل متواصلة معها، لو توقفت للحظة عن التعرف عليها ستتحول عيناي حدقات فارغة، وهذا سيسبب الرعب لي، أمارس الكتابة كي أحتفظ بعيني ذاتي. ثم إن الكتابة تعدل مزاجي، وتعدل نوعية نومي، فلا يكون متقطعاً فاشلاً، يصير نوماً طيباً عميقاً ولو لدقيقة. الكتابة أيضاً تعدل طعامي، فلا آكل الأشياء الضارة وإذا أكلتها أعرف أنها لن تضرني لأني صرت أكثر مناعة، والكتابة مناعة من السقوط في التخمة والألم. وحين أكتب أكون إنسانة جيدة، طيبة، متوازنة، ويمكن أن أرى بصورة أفضل كل الصور مهما كانت ضبابية. وحين أكتب لا يحدد أحد ملامحي إلا أنا. «وجود السخرية لا يعني بالضرورة أن الجدية مستبعدة» (سورين كيركغارد).. تعمدتِ استخدام السخرية بتجلٍّ في بعض نصوصك، أهو تعبير عن فداحة المرارة أم ضرورة مرة لإكساب النص حياته؟ - السخرية أساساً هي قمة الجدية. أنت لا تكون ساخراً إلا إذا كنت جاداً كفاية؛ لكيلا تأخذ أي شيء على محمل الجد. التافهون فقط هم من يأخذون كل الأمور، على تفاهتها مهما كانت ضخمة، بجدية صارمة، ظانين أنهم أرباب الكون وكل شيء قابل للتسوية النهائية. هم أشخاص قصر فهمهم عن إدراك حقيقة الفناء المحتومة فأحكموا قبضتهم بشدة على قطرة ماء. أين الحكمة في ذلك؟ «من يحتفظ بالقدرة على مشاهدة الجمال لا يشيخ أبداً» (فرانز كافكا).. ما الذي يشكله حضور الجمال -الفني- السينمائي- التشكيلي- الطبيعة على روح الساعدي في كتابتها؟ - ولكن ماذا تفعل روحاً لا تتذوق الجمال في هذه الحياة؟. وما الحياة من دون جمال؟ الروح تعيش على الجمال. وتنقب عنه في أي مكان. حتى في أكوام الخرائب، والأحراش المهجورة، يجب أن نفتش عن الجمال، وحين نُقلّب ونُقلّب ولا نجد شيئاً، نبحث عن جمال الحقيقة في القبح. وهذا عزاء كافٍ.. ولو إلى حين. أحب السينما، أعشق الجلوس في الظلام أمام الشاشة الكبيرة، يا إلهي كيف تعكس الوجوه بدقة، كل تلك التعابير الإنسانية، الدموع، الاقتراب المفرط من الأمل، ثم مهارة التلاشي، السينما إبداع الحضارة الإنسانية الحديثة. وفي اللوحات الفنية أريح بصري وآخذ نفسي من يدي وأقف أمام لوحة وأقول لي هيا بنا إلى الداخل، إلى داخل تلك اللوحة، فنذهب أنا ونفسي في نزهة إلى داخل الألوان، وحين نخرج أكون قد اختلفت وتلونت أكثر. وعلى أنغام الموسيقى أطفو. فأصفو. «نوارس تشي غيفارا» هو العنوان الذي عنوت به مجموعتك القصصية عنوان واضح وغير موارب.. هل يسكنك الوضوح إلى هذا الحد أم لديك تأويل له؟ - بل أنا من أنصار الوضوح ما استطعت إليه سبيلاً. الحياة أقصر من تضييعها في متاهات المعنى من دون ضرورة. النوارس وتشي غيفارا ماذا يمكن أن يكون أكثر حرية من ذلك. في هذه المجموعة تحاول الشخصيات كلها البحث عن مخارج للحرية، تحاول الانعتاق والتحرر من اليومي والمستهلك والمكرر والممجوج والإحساس اللجوج بوجوب أن تحيا خارج جلدك لتريح بصر الآخرين وتخون قلبك. الإحالة السياسية في اسم غيفارا ليست حاضرة في المجموعة؛ لأني شخصياً أمقت لعبة السياسة، ولكنها فقط إحالة إلى الفكرة الرومانسية للحرية. ضمير المتكلم الحاضر بقوة في المجموعة منحك حرية كبيرة للتعبير، وهو ما أضفى على المجموعة قدرة في السرد والتماسك أيضاً.. هل أنت مغرمة بهذه التقنية أم اللاوعي قادك من دون إلحاح منك؟ - أنا أكتب بلا وعي. يحصل أن أكتب بوعي، ولكن هذه ليست نصوصي المفضلة. في المجمل أترك لا وعيي يقودني، هو أساساً من يطلب أن أكتب، أنا فقط أجلس أمام شاشة؛ لأني أكون قد ضقت من المشهد الواقعي أمامي، ضقت جداً وبشدة، وحين أجلس أمام الشاشة أريد أن أفتح نافذة لأحلامي، للأنا التي كنتها، حين كنت صغيرة جداً، وأظن أنني حين أكبر سيصير كل شيء على ما يرام ولم يصر. فأكتب لأكون أنا على ما يرام وكفى. «الألم مخيف عندما يكشف عن وجهه الحقيقي، لكنه ساحر عندما يكون تعبيراً عن التضحية أو التخلى عن الذات أو الجبن» (باولو كويلو) أليس من خيار أكثر خفة على النفس البشرية من دون وجع مرّ؟ - أوجاعنا تأت من الآمال، ولو فقدنا الأمل لانتهى الألم. مهما خيم الليل يظل منتظراً صباح، مهما اشتد البرد يظل باحثاً عن دفء، مهما هبطت الشمس لتحرق رأسه يظل منتظراً المطر، مهما أغرقه المطر يظل منتظراً قوس قزح، الإنسان كائن شغوف بالأمل، لذلك سيظل دوماً يتقلب بين المستويات المختلفة لمرارات الوجع. ما الذي يشغل الساعدي بعد «نوارس تشي غيفارا»؟ وهل لها أن تغامر في دخول عالم الرواية المغري والمحرض؟ - تصدق؟، لا أعرف ما يشغلني. أحقاً لم أكتب الرواية بعدُ؟ ظننت أنني أفعل ذلك طوال الوقت. الحقيقة أنني لم أفعل شيئاً. الوهم، الخط الفاصل بين الحقيقة والخيال، بين ما نريد وما نفعل، بين أن نظن أن إرادتنا لشيء تحيله حقيقة بالضرورة من دون الحاجة إلى الاشتغال عليه. لا أدري. قد أكتب شيئاً لاحقاً، وقد لا أكتب أي شيء أبداً. من يهتم.