لا تمثل قلعة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الفيحاني، التي أعلنت «الهيئة العامة للسياحة والآثار» الأسبوع الماضي، إعادة بنائها في بلدة دارين، مجرد قلعة تراثية وتاريخيةفهذه القلعة التي شيدت قبل نحو قرن وثلاثة عقود، كانت تمثل رمزاً ل «الكرم والضيافة»، وإن اندثرت القلعة بفعل الإهمال، الذي تعرضت له خلال العقود الثلاثة الأخيرة، إضافة إلى الإهمال، إلا أن ذكراها لا زالت راسخة لدى أهالي دارين خصوصاً، وسكان شرق السعودية عموماً. وتمثل القلعة التي سيبدأ العمل على تشييدها بعد ستة أسابيع، حقبة مهمة في تاريخ بلدة دارين، عندما استقبلت الشيخ محمد بن عبد الوهاب الفيحاني، في العام 1886، قادماً من قطر، فأسس قلعته لتكون نافدة اقتصادية واجتماعية هامة. وشكلت هذه القلعة بعد تشييدها، قوة اقتصادية ووجاهة اجتماعية كبيرة، خصوصاً أن صاحبها كان من أكبر تجار اللؤلؤ في الخليج العربي. ولم يكتف الفيحاني بعلاقاته المحلية فقط، بل امتدت إلى خارج أسوار المنطقة، بعد أن ساهمت شخصيته الاقتصادية، إضافة إلى كونه شخصية دينية مميزة، في تكوين علاقات اقتصادية واجتماعية واسعة مع عدد من الدول. واستفاد من هذه المكانة في إقامة الكثير من الصداقات مع حكام الخليج والهند. كما أصبحت له علاقات مع رجال أعمال عرب وأجانب. إضافة إلى عدد من العلاقات مع العثمانيين والبريطانيين المسيطرين آنذاك على منطقة الخليج. وشكلت هذه القلعة التاريخية رمزاً للكرم والضيافة، حتى وصل الأمر بالفيحاني، إلى أنه كان يستخدم المنظار، لرؤية القادمين من طريق البحر، وكان يرسل قوارب صغيرة، لاستقبالهم وإكرامهم في قلعته. وتجلى ذلك عندما استقبل الفيحاني مؤسس المملكة الملك عبد العزيز ووالده الإمام عبد الرحمن، ومعهم بعض أخوة الملك، وهم محمد، وسعد، وأبناء عمومتهم آل جلوي، وذلك بعد قدومهم من الرياض عام 1309ه، في طريقهم إلى واحة يبرين، ثم قطر، فالأحساء، وانطلقوا بعدها إلى الكويت، مروراً في دارين. واستضاف الفيحاني الإمام عبد الرحمن وأبناءه، واستأجر لهم بيتاً في دارين، وفرشه لهم. وقام بقضاء حوائجهم، وتدبر ما يلزمهم، وطلبوا خيلاً، فذهب إلى مرابضه وأعطاهم ما أرادوا. ودوّن الفيحاني في مجلس قلعته، بيتاً شهيراً من الشعر «يا ضيفنا لو جئتنا لو جدتنا نحن الضيوف وأنت رب المنزل»، للتأكيد على تمسكه بالضيافة العربية والكرم والسخاء، التي كان يتمتع بها، ولتكون قلعته مرفأ هاماً لطلاب العلم والتجار والفقراء والمساكين، الذين كانوا يلوذون بالشيخ الفيحاني، وينهلون من كرمه وسماحته. وعلى رغم هذه المكانة الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة التي تمتع بها على مستوى الخليج العربي بشكل عام، فإن أحوال الفيحاني المعيشية ومكانته الاقتصادية، بدأت تتغير، ففي العام 1906، اتخذ قراراً صعباً عليه، بإغلاق قلعته الشهيرة، وأبواب الضيافة، بسبب إفلاسه التام، حتى توفي بعد أن توارى عن الأنظار، إثر إصابته بمرض عضال. وسافر إلى الهند ليلاً من دون أن يشعر به أحد، وتوفي في إحدى مستشفيات بومباي، ودفن في إحدى مقابر المسلمين هناك. ولم تصمد القلعة بعد رحيل فارسها، فلقد بقيت فترة أمام البحر، وشكلت مزاراً يرتاده الزوار والأجانب، للتعرف على هذه القلعة التاريخية الكبيرة، التي ارتبطت بشخصية الفيحاني الاقتصادية والاجتماعية. إلا أن الاختلاف بين ورثة الفيحاني والجهات المسؤولة في ذلك الوقت، حول شراء القلعة بمبلغ مادي، ساهم في اندثارها، وبقيت آثارها الأخيرة حتى نهاية القرن الميلادي الماضي. وتم إزالة بقاياها قبل سنوات، بعد أن اندثرت بسبب الأمطار وعوامل الطقس الأخرى. وتتكون القلعة من برج ومجالس عدة، إضافة إلى مجموعة كبيرة من الغرف، ودار ضيافة، وأخرى للمرافقين. ويصف أحد المهتمين بالآثار القلعة بقوله: «كانت شبه مستطيلة، وغير ملاصقة للمنازل، ويحدها من الجنوب مسجد صغير وساحة، وهي مرتفع صخري ينزل إلى البحر مباشرة. ومن جهة الشرق منزل ثم جامع دارين الكبير». مضيفاً «كان للقلعة ثلاثة أبواب خشبية، وكان يوجد ثلاثة أبواب من الجهة الجنوبية، الذي تطل منه القلعة على البحر. والباب الكبير والرئيس هو الأوسط فيهم. أما الغربي فيعتقد أنه استخدم للنساء، والشرقي للبرج». ويقول الباحث التاريخي نزار العبد الجبار، في إحدى دراسته الأثرية حول هذه القلعة: «كانت مبنية من طابقين، وفي الزاوية الشرقية الجنوبية بُني برج اسطواني من طابقين، ويوجد في وسط القلعة بئرين للماء. واستخدم في عملية البناء والطين الأصفر والجص الأبيض العربي، والجص الرمادي. كما استخدمت جذوع النخل المحلية وسيقان أشجار مستوردة من الهند، وكذلك الحُصر المصنوعة من القصب وشرائح سيقان الخيرزان الغليظة (الباسجيل) المجلوب من أفريقيا». ويضيف العبد الجبار «تهدم في السنوات القليلة الماضية، أغلب جدران القلعة المطلية باللبن والجص، وكذلك لوحات جميلة نُقشت عليها زخارف رائعة، وكذلك الأقواس الإسلامية بمختلف الأشكال في ممرات عدة. والآن أزيلت كل محتويات ومعالم القلعة المتبقية».