شتان بين ارتداء لون الفرح الأبيض، وبين الحداد ولونه الأسود، ضدان اجتمعا في حادثة القديح الأليمة، فقبل يوم الجمعة كانت حاراتها تتزين بلوحات الزواج، إلا أنها نكست وأزيلت جميعها تضامناً وحزناً على الشهداء وتضامناً مع أسرهم، فلا يلمح القادم لهذه البلدة سوى الأسود، بعد أن لطخ التفجير الإرهابي بياض هذه البلدة الهادئة جداً. وأعلن شباب كانوا يستعدون لدخول القفص الذهبي إلغاء حفلات زواجهم، وأغلقوا أبواب خزاناتهم على الثياب البيضاء والعطور الفاخرة، بعد أن انتزعوا ثياب السواد من داخل تلك الخزانات، وبدل أن يسابقوا الزمن في التجهيز لمراسيم الزفاف وزيارة قاعات الأفراح وشراء الحلوى الفاخرة، سارعوا إلى مكان الحادثة يستنشقون فيها رائحة الموت. لا يمكن أن يلمح زائر القديح سوى وجوه حزينة غاضبة، تشابهت في كل شيء وأصبح من الصعب التمييز بين وجه من بات زواجه بعد أيام، وبين الفاقد المثكول والمتهيؤون لإتمام مراسم «يوم العمر». فالكل حضورهم بين القبور لتجهيز القبر الضخم الذي سيضم جثامين شهداء هذه الحادثة الأليمة. وشتان بين أن يزين من يستعدون للزواج منازلهم بالإضاءة واللوحات الترحيبية، وبين من حولوا كل هذه المظاهر إلى منازل مظلمة كئيبة انتزعت منها مظاهر الأفراح انتزاعاً، واستبدلت الزغاريد إلى أصوات العويل، ومن كان ينتظر انقضاء يوم الجمعة ليودع العزوبية، أعلن الحداد الطويل على أهله وجيرانه وأصدقائه. واعتادت القديح عصر يوم الزواج أن تزف عريسها في موكب كبير يجوب حاراتها الهادئة بأزقتها الضيقة المكتظة، ليخرج سكان البلدة مشاركين في الفرح الاجتماعي، وليكملوا هذه الطقوس ليلاً بزفة أخرى للعريس قبل أن يلوح لهم بيده شاكراً على المشاركة ليدخل بعدها لعروسه، والمشهد ذاته كان حاضراً في القديح عصراً وليلاً، بعد أن أعلن الأهالي إقامة زفة خاصة لشهداء الجمعة. ومن المتوقع ألا يترك أهالي القديح عادتهم المعروفة في نثر الورد والريحان على رؤوس المتزوجين، إلى جانب الحلوى والزغاريد، وذلك في يوم تشييع جثامين الشهداء في موكب يتوقع له أن تمتزج دموع الحزن بدموع الفرح، خصوصاً أن أصغر عريس سيزف لقبره طفل لم يتجاوز الخامسة، ولم يحن وقت زفافه. ولن تستقبل أم حيدر جاسم المقيلي ابنها عصر يوم زفافه إلى مثواه الأخير من منزلها، كما هو معمول به في حفلات زفاف البلدة، لتنثر على رأسه الريحان والنقود والحلوى، على رغم أنه أحد من سيزفون إلى القبر، ولن تصبغ قدميه الصغيرتين بحناء الفرح، على رغم وجود زفاف خاص له إلى جوار أصدقاء المسجد. فلا يستطيع الزائر أن يفرق بين من هو صاحب العزاء والفقد، فالوجوه في القديح تتشابه ومستوى الحزن متشابه أيضاً، ولعل سكك هذه البلدة اعتادت على أن تستقبل خطوات المشاركين في زفة العصر المعروفة، إلا أنها لا تزال تحتمل خطوات مثقلة بالألم في زفاف من نوع آخر.