يُدرك الذين وقّعوا اتفاق كوبنهاغن للمناخ، بعد مخاضٍ غير مريح كاد أن يودي بالمفاوضات إلى الانهيار، ما يتهدّد كوكب الأرض من أخطار إذا استمرّت انبعاثات غازات الدفيئة وفي مقدمها ثاني أكسيد الكربون، تتكثّف وتزداد ارتفاعاً. ويعي هؤلاء، أن غمرَ البحار لن ينحصر في البلدان التي عارضت ما توافق عليه القادة الكبار، وأن الاضطرابات المناخية المتسببة بكوارث مدمّرة، ليست حكراً على البلدان الفقيرة أو النامية، القاصرة عن تموين دفاعات ضد ثورات الطبيعة. ولافت أن البلدان المتقدمة التي اجتزأت الاتفاق، تسعى جاهدةً إلى تعزيز دور العلماء وتدعم البحوث العلمية والتطوير الاقتصادي بهدف تعزيز القدرة التنافسية لتنمية تجارتها، أو تطوّر ميادين البحوث المرضية وصناعة الدواء، هي ذاتها تتجاهل تقارير علماء الأرض والمناخ والبيئة والاحتباس الحراري المنذرة بويلاتٍ مناخية. ومن المشهدية المعاكسة لهؤلاء الحكام، ومن يساندهم داخل بلدانهم من قوى اقتصادية تريد الاستمرار في هدم البيئة والمناخ، أنهم، وهم يرسلون بعثاتٍ إلى الفضاء الخارجي مستطلعةً آفاق الكون، يحرصون عبر تشريعاتهم أو رغباتهم على عدم تلويث أي كوكب حطت مركبةٌ فوق تربته، ويتوافقون على إبقاء ما بعد الغلاف الخارجي للأرض، نظيفاً وسليماً، على رغم أنه لا يؤمن العناصر الحامية للحياة، فيما يمعنون في تدمير الكوكب الملائم للحياة، ليقتلوا الحياة فيه. والمفارقة أن كوكب الأرض هو السفينة الكونية الوحيدة لتحقيق طموحات البشر في استطلاع المسافات الفضائية واستكشاف طبيعة الكواكب التي تحيط به. فمحصلة المحادثات والنقاشات التي استغرقت أسبوعين في عاصمة الدانمارك، لم تتوّج باتفاق مناخي يلبي، ليس طموحات سكان الأرض، بل أمنياتهم في الحرص على استمرار الاعتدال المناخي. حتى الذين وقعوا الاتفاق اعتبروه نقطة بداية ليست كافيةً، فيما الذين امتنعوا تصوروه الآلية التي ستهدم بلدانهم وتشرد ناسهم وتمحو معالم كثيرة عن الخريطة. لكن حتى شباط (فبراير) المقبل، موعد تقديم خطط الدول حول كيفية ترجمة الاتفاق للحد من الانبعاث الحراري، ستتعزّز مواقع الاقتصاد البيئي، الصناعي والزراعي على السواء، وربما ساعد هذا الاقتصاد في خفض درجات الحرارة. فاليقظة الخضراء لدى الشعوب تدفع في اتجاه «الاقتصاد الأخضر». يساعد حتماً في هذا المجال، تأييد حكومات لهذا الاقتصاد، لتتحرّر بدورها من عبء البطالة التي خلفتها أزمةٌ التحرر الاقتصادي المفرط، وتسببت في ركود عميق بحيث تحتاج الاقتصادات العالمية إلى سنوات لتُنتشل منه. فباستثناء التوسع في بناء المفاعلات النووية السلمية وما تحتاج من مهندسين ومهنيين وعناصر بشرية كثيرة، نجد أن تطوير هندسة الطاقة المتجددة والنظيفة، إنتاجاً وتجهيزات، يؤمن مناخاً لصناعة الطاقة المستخرجة من المياه أو الشمس أو الرياح أو من باطن الأرض... ومساحةً واسعة لتحقيق فرص عمل متميّزة. وقد تفرض الهندسة البيئية، ابتكار تجهيزاتٍ عالية التِقانة لخفض أخطار التلوث بالنفط وتقليص الانبعاثات الضارة التي يتسبب بها. وقد ابتكر العلمُ أجيالاً من المحروقات تدنى فيها مستوى الإضرار بالبيئة والصحة، مثل البنزين الخالي من الرصاص لكون الرصاص المادة المضرّة، أو أنواعٍ من المازوت الأقل تلويثاً، أو تجهيز السيارات بمحركات ذات تلويثٍ أدنى. وتطمح الهندسة البيئية إلى تحسين نوعية السكن بما يخفّض الحاجة إلى الطاقة سواء لناحية الابتكار في البناء والمواد المستخدمة فيه، أو في التجهيزات الموصلة للطاقة. إذ إن الأعمال الهادفة إلى تحسين فاعلية الطاقة في المساكن، تسهم في تحسين حال المناخ. وقد خفّضت مؤسسات تجارية في الولاياتالمتحدة تكلفة الإنارة 80 في المئة خلال 18 شهراً، باعتمادها مصابيح ثنائية مشعة للضوء. ولا يخفى أن الخطط الهادفة إلى خفض الاحتباس الحراري تستهدف أيضاً امتصاص الكربون، وهي تعتمد على التوسع في ابتكار الآليات والسبل الأدنى تكلفة والأكثر فعالية، وتحتاج تالياً إلى أخصائيين وتقنيين. تنقل «إيكونوميست» (في عددها السنوي لعام 2010) عن رئيس جزر مالديف، المعرّضة للغرق،محمد ناشيد، إن حكومته تضع مخططاً استراتيجياً للتوازن البيئي لعشر سنوات، يهدف إلى إلغاء الاعتماد على المحروقات الأحفورية في 2020. وتطلق السنة المقبلة مشاريع للطاقة المتجددة، وتعمق برامج استخدام النفايات في إنتاج الطاقة. ويعتبر ناشيد أن ابتكار «الفحم البيئي» في بلاده يساعد في تثمير الزراعات ويزيد من إنتاجها ويخفض الانبعاثات الملوّثة. ويتحدث عن منشآت محلية تختبر تقنية جديدة موافقة للنمو «الأخضر»، وعن مركزٍ سياحيٍ بات الأول في العالم لا يتسبب بأي تلوث، بما يؤمن الترف والبيئة النظيفة في آن. لا شك في أن الركود الاقتصادي يعزّز الابتكار والاستثمار في القطاعات الصديقة للبيئة. يقول رجل أعمال أميركي شارك في قمة كوبنهاغن: «عندما يكون الجميع ميسورين وسعداء كما قبل 18 شهراً، يُنسى الكثير من هذه الأمور لأن الجميع مشغول بجمع الأموال. وعندما نكون في ركود اقتصادي يزداد التركيز من الناحية التجارية على المسؤوليات البيئية وزيادة الفعالية وغيرها من الأمور البيئية». لكن بين قمة كوبنهاغن وشباط المقبل، ستقدم الدول خططها لتقليص الانبعاثات، فتطلق بالطبع برامج الصناعة الخضراء، صناعة البيئة.