نباحٌ حزين استطاع أن يقلقه من منامه. الأمر الذي فشلت فيه أسرابُ البق التي كانت تنهش جسمه المنهك. قام وجلس على حافة الكنبة المتهالكة. وبغيظ شديد، فعص بقة شرهة كانت تقف فوق ثقب كبير في صدر فانلته الكالحة. شعر بالغثيان والدم يلوث إصبعه، بخاصة عندما تذكر أن الماء قد فرغ، وأنه لم يملأ الجركنَ الأخضر الكبير الذي يحتلّ أحد أركان غرفته الحقيرة والتي يجاوره فيها عنتر، كلب صاحب المنزل الذي فقد زوجته مساء أمس، ومن وقتها لا يكفّ عن النباح بصوت شجي يوجع الأحشاء، حتى ظنَّ أن هذا الكلب الضخم مسكون بالجن. بل إنّ نباحه كان ترجمةً لكلمات «العديد» الذي كان يستمع إليه في جنازات قريته في قلب الصعيد. عاد الكلب ينبح وينوح ويتحوّل صدى النباح في قلبه إلى كلمات، فاغرورقت عيناه بالدموع. وتعجب أن يتوجع هكذا لنباح جاره. اندفع ناحية الباب الخشبي الضعيف وخرج باحثاً عن نسمة هواء، ولإسكات الكلب الحزين. اصطدم بالمعلم خليل، صاحب البيت. كان يحمل في يده سندويتشات كباب ذات رائحة نفّاذة، وقد أخرجها من الكيس المميز لوجبات «تيك أواي» من محل شهير. فتح المعلم خليل باب الحجرة، وفوجئ بكلبه المدلل هزيلاً مكسوراً تلمع في عينيه دموعٌ سوداء، فاقترب منه وربت على ظهره وقدم له الكباب الساخن. لكن ما إن شمَّ الكلب رائحة الشواء، حتى هاج هياجاً عظيماً وأخذ يدق الأرض بقدميه ويتلوى كالمسموم، ثم رفس السندويتشات، فتلقفها جاره بيقظة وحنو وقدّمها للمعلم خليل الذي رفض أخذها، قائلاً: بالهناء والشفاء. أخذها وعاد إلى حجرته، ثم التهمها بنهمٍ شديد. لكن الكلب لم يهدأ. نباحه يهز البيت. فتوقف الجار عن الأكل، ورنَّ في داخله يقينٌ ملتهب بأن هذا الكباب مصنوع من لحم الكلبة الغائبة. نزلت دموعه حتى اصطدمت بشظايا الدسم المتجلط فوق شفتيه، وذابت فوق لسانه فتافيت الخلطة السرية ذات المذاق اللذيذ، فانتصرت شهوة الأكل داخله.