رحل شاعر أفريقيا العربية محمد الفيتوري كما لم يتمنَّ يوماً، غريباً وبعيداً من السودان، وطنه الأم الذي نُفي منه في سبعينات القرن العشرين. وبعيداً أيضاً من وطنه الثاني ليبيا، الذي منحه زعيمه السابق معمر القذافي بطاقة انتساب إليه. رحل شاعر «الزنوجة» في الرباط، فقيراً ومريضاً، وكان بعض أصدقائه تنادوا لمساعدته في العلاج، هو الذي عاش ردحاً من حياته متنعماً بما كان يُغدِق عليه النظام الليبي السابق. كأنّ قدر الشاعر المولود عام 1936 - وهو تاريخ غير مثبت سوى في أوراق مشكوك في صحّتها، في مدينة «الجنينة» - على تخوم السودان، أن يظلّ شاعراً ضائع الهوية، يعيش على تخوم الخريطة العربية والأفريقية، العروبة والزنوجة، الكلاسيكية والحداثة. الفيتوري شاعر بلا وطن نهائي، لكنّ الأوطان كلّها كانت له. امتزاج الأعراق في دمه - البدوي والزنجي والنيلي - لم يولّد في نفسه فوضى الأمكنة والهويات، بل كان فخوراً بأن يُسمّى شاعراً سودانياً أو ليبياً (وهو الليبي الأصل وفق تحدّر عائلته)، شاعراً أفريقياً أو عربياً، مهاجراً أو منفياً. شكّلت مصر أساساً في بناء شخصية الفيتوري إنسانياً وشعرياً، هو الذي قضى فيها الردح الأكبر من حياته إلى أن «صنعته» مثلما صنعت أبناءها. درس في الأزهر وتتلمذ على أساطين الشعر القديم والنهضوي والعالمي، لا سيما الملتزمين منهم، لينطلق من ثمّ وحيداً في تجربته من دون أن ينتمي الى تيار أو حركة أو مدرسة شعرية. مثلما عاش متنقلاً بين الخرطوم والإسكندرية والريف المصري والقاهرة وبنغازي وبيروت ودمشق والدار البيضاء وروما والرباط، تنقّل الفيتوري شعرياً، فكتب بحرية متأرجحاً بين قصيدة التفعيلة والقصيدة العمودية، بين الغنائية والالتزام، علماً أنّ الالتزام يحضر في تجربة الفيتوري بمعناه الإنساني، بعيداً من المعنى السياسي والأيديولوجي. وهو يقترب في انحيازه المطلق إلى الجمال والإنسان، من الشاعر السنغالي ليوبولد سنغور الذي أسّس مع إيميه سيزير في الثلاثينات «حركة الزنوجة» التي أعادت الوعي إلى الواقع «الزنجي»، رافعةً شعار «القيم السوداء». لكنّ صاحب «أغاني أفريقيا» تخلّى عن عقلانية سنغور في رؤيته الزنجية، وارتأى التعبير عنها كما عاشها، شاعراً عفوياً، تلقائياً، غاضباً، متأثراً بجروح خلّفها التاريخ فيه. وهو لم يتوانَ في هذا السياق عن وصف نفسه ب «المهرّج الحزين» و «المغني الهمجي» و «السجين الميت» الذي يثأر لنفسه. وهذا النَفَس الثأري بدا جليّاً في دواوينه الثلاثة التي صدرت تباعاً في مرحلته الأولى، ومثّلت «أفريقيا» الفضاء الشعري فيها: «أغاني أفريقيا» و «عاشق أفريقيا» و «اذكريني أفريقيا». ومع تميّز هذه المجموعات، ظلّ ديوانه الصادر في القاهرة عام 1955 بعنوان «أغاني أفريقيا»، من أكثر الأعمال التي لقيت ترحيباً وحفاوة في العواصم العربية. وفيه دعا الفيتوري إلى رفض الظلم التاريخي والسياسي والعنصري، بصوت أصيل، جريء، مجروح، كأنه طالع من ذاكرة العذاب. وقد كتب في إحدى قصائده: «قلها لا تجبن... لا تجبن/ قلها في وجه البشرية/ أنا زنجي/ وأبي زنجي الجدّ/ وأمي زنجية...». ليس مهماً السؤال عن مكانة الفيتوري ودوره في حركة الشعر المعاصر، لأنه شاعر حديث بمقدار ما هو كلاسيكي ورومنطيقي. ويكفيه أن يكون شاعراً فاق بعض شعراء الجيل الريادي الأول موهبةً وفرادةً، هو الذي لم يسعَ يوماً إلى أن يكون أكثر من شاعر.