اتفقت بضع كاتبات بريطانيات على الكتابة عن أشباح الماضي سواء كانت حقيقية أو روائية. ثلاث روائيات من أجيال مختلفة أولاهن ديانا أثيل التي بدأت الكتابة في مطلع أربعينات القرن الماضي لكنها لم تتذوق النجاح إلا في مطلع تسعيناتها. «في مكان ما قرب النهاية» دخل لائحة الأكثر مبيعاً بسرعة أربعة آلاف نسخة في الأسبوع، ورشّح لجائزة كوستا، وجلب لها دعوات الى مهرجانات أدبية للمرة الأولى. صدرت الطبعة الشعبية منه الربيع الماضي، وتلاها في تشرين الثاني (نوفمبر) «درس في الحياة» الذي قد لا يكون الجزء الأخير من مذكرات أثيل. دوّنت الكاتبة البالغة الثانية والتسعين حياتها كما هي في مذكرات منذ الستينات، وربما كان حديثها الصريح عن الجنس وهي عاجزة عن المشي من دون عصا في تسعيناتها، ولكونها في مكان ما قرب النهاية ما أثار الاهتمام بها. كانت في التاسعة عشرة عندما عقدت خطوبتها على مدرس شقيقها الخصوصي الذي قاتل في الحرب العالمية الثانية، وفسخ الخطوبة في رسالة لوقوعه في حب شابة أخرى. وصفت وجعها اثر ذلك في «بدلاً من رسالة» عندما قرأت مقطعاً في يوميات شقيقتها الأصغر سناً. رفض صديق الشقيقة تقبيلها لأن القيام بذلك باكراً يفسدها. «أنظري الى دي (ديانا)، قال، أنت لا ترغبين بأن تكوني مثلها. بالطبع لا أرغب بذلك». شوه فسخ الخطوبة في أول الأربعينات سمعة الفتاة، وشعرت أثيل أن الآخرين نظروا إليها كأنها مصابة بمرض، لكنها قرّرت أن تكون شقيقة نموذجية مع معرفتها بالزيف في قرارها. كان يقصف القوات الألمانية في اليونان في عيد الفصح عندما أسقطت طيارته وقتل تاركاً أرملة شابة حاملاً. وجد ابنه رسالة من أثيل فاتصل بها والتقيا. بنت أدبها على خيباتها في الحب، إذ حطم قلبها مرتين بعد ذلك رجل متزوج عرفت أنه لن يترك شريكته، ورجل آخر أدرك أنه «لا يحبها بالضبط». كتبت في «بعد الجنازة» عن الكاتب المصري الواعد وجيه غالي الذي التقته عندما أصدرت دار النشر التي كانت محررتها رواية «بيرة في نادي البليارد». دعته ديدي في كتابها وذكرت انه بدأ يبغضها وينفر منها جسدياً. سخر من كتابتها ورآها «قذارة متوسطة المستوى»، لكنه ترك لها رسائله ويومياته وكتب في رسالة انه أحبها أكثر من أي شخص آخر ثم انتحر. كانت أربعينية مكتئبة عندما التقت كاتب مسرح متزوجاً من جامايكا. عاش معها حتى بعد أن انتهت علاقتهما، وعندما أحب ممثلة شابة انتقلت هذه الى بيت أثيل وعاش الثلاثة معاً ستة أعوام. صدمت الكاتبة ذات الخلفية العائلية الأرستقراطية مجتمعها مجدداً عندما ارتبطت برجل أسود آخر قالت إن القليل جمعها به. «نادراً ما قمنا بشيء معاً عدا إعداد عشاء صغير بهيج والذهاب الى الفراش، لأن القليل جمعنا باستثناء حب الجنس». كاتبة انكليزية أخرى نهلت من حياتها لكنها حرصت خلافاً لأثيل على تغطيتها روائياً. تعرف سالي فيكرز بالكاتبة الرومنطيقية المثقفة التي تتجاوز نساؤها هموم العلاقات الى اهتمام ودراية رفيعين بالفن والشعر والدين. درست الكاتبة البالغة الواحد والستين الأدب الإنكليزي في كمبريدج، وعلمته في أكسفورد وستانفورد، ثم تخصصت في التحليل النفسي عندما وجدت نفسها في أول ثلاثيناتها مطلقة مع طفلين. عالجت مرضى الإدمان والكتاب والفنانين المصابين بعجز الإبداع. أغرمت بإيطاليا لا سيما منها البندقية، وعندما رأت في كنيسة هناك رسوم طوبيا والملاك لغواردي عادت الى الفندق وبدأت تكتب «ملاك مس غارنت» الذي عاد عليها بشهرة كان الفضل فيها للقراء الذين أوصى أحدهم للآخر بمطالعتها. تركت العمل لكن التحليل النفسي بقي مرجعية لكتابتها إذ جهدت فيه لبلوغ نقطة تصلها بالآخر كما يفعل الكاتب. قالت إن الكتّاب الكبار، مثل جون دون وجورج إليوت وجين أوستن ودوستويفسكي وهنري جيمس وشكسبير أولاً، علموها عن النفسية البشرية أكثر مما فعل فرويد ويونغ. رواية فيكرز الخامسة «الرقص الى وراء» الصادرة عن دار فورث استيت تروي بمرح وشجن معاً رغبة فيوليت في الابتعاد بعض الوقت إثر وفاة زوجها. تركب الباخرة الى أميركا وتلتقي خبيراً في الطبابة بالسحر الأفريقي، وإخصائية في قراءة هالة البشر الروحية تؤمن بالتقمص، وناقداً مسرحياً لاذعاً وعاطفياً في الوقت نفسه. تلتحق فيوليت بدورة الرقص وتدهش من قدرتها على تعلمه وانغماسها فيه، لكن إدوين لا يغيب عن بالها. أحبته في الجامعة حيث علم الشعر وعزّز ثقتها بنفسها ومعرفتها بالعالم، وخفف من الأذى العميق الذي تسبب به موت والدتها وهي العاشرة. غير أنها تستسلم لملاحقة برونو صديق إدوين وتتزوجه ثم تنفصل عنه لغيرته العنيفة من نجاحها شاعرة. تقصد أميركا الآن لتلتقي إدوين عله يغفر ويصلان ما انقطع. يغلب الماضي في الرواية والنفس الشجن على الأحداث في الرحلة، علماً أن فيكرز استوحت الفكرة من دروس الرقص التي تلقتها على الباخرة «كوين ماري الثانية» عندما دعيت لتلقي كلمة فيها. عملت أودري نيفنيغر، المولودة في شيكاغو، دليلة مدة عام في مقبرة هايغيت، لندن، حيث دفن كارل ماركس. روايتها الجديدة الثانية «اتساقها المخيف» الصادرة عن دار جوناثان كيب تدور الأحداث في مبنى قبالة المقبرة يعيش فيه رجل مصاب بسلوك قهري يمنعه من مغادرة بيته ويتسبب بهجر زوجته البيت. ترث توأمان أميركيتان الشقة تحته من خالتهما الإنكليزية إلزبث التي تشترط بقاءهما عاماً كاملاً في الشقة لكي تستطيعا وراثتها. تترك لهما أيضاً كتباً نادرة يشكل ثمنها ثروة، وتتحول شبحاً في منزلها يلاعب الهرة في الوقت نفسه الذي تفعل إحدى التوأمين وتكتشف الوحش الكامن فيها. شاءت نيفنيغر الرواية استكشافاً للهوية والمرض النفسي الذي تعرفت إليه عن كثب عندما واعدت رجلاً يعاني في شكل أقل حدة من بطل الرواية من السلوك القهري. تابعت في روايتيها أيضاً ثنائية الحتمية والخيار الحر، ويتجلى حصار الشخصيات نفسياً وجسدياً. حوّلت رواية نيفنيغر الأولى «زوجة المسافر عبر الزمن» فيلماً عرض أخيراً، وشردت فيه هوليوود كالعادة عن القصة. يلتقي هنري زوجته صغيرة ويدربها على حبه، ويبقى عاجزاً عن تغيير الأحداث التي يعلم مسبقاً أنها ستحدث. طفلته القادرة على السفر مثله ليست أسيرة وضعهما الخاص لأنها أكثر تطوراً منه. اعتمدت الكاتبة في «اتساق مخيف» نهاية مفتوحة تمنح الشخصيات فرصة التغيير، لكنها تمنع القارئ من معرفة مصيرها لا في سياق الأحداث وحده بل أيضاً في المسألة الكبرى للحياة والموت.