افرحي يا جدة... فقد أصبح لديك 50 صافرة إنذار متنقلة في حالات الطوارئ، لأنك يا «عروس البحر الأحمر» – كما يسمونك – مهددة بالغرق في أية لحظة! استبشري خيراً يا جدة... فهيئة الأرصاد في بلادنا أعلنت بعد الكارثة بياناً شاملاً لجميع مناطق المملكة لتخلي مسؤوليتها حاضراً ومستقبلاً بدلاً من قيامها بواجب الرقابة أولاً بأول، فقد حذرت أبناء الوطن كافة من تقلبات الجو، وما قد يسببه من أضرار بيئية، خصوصاً في بلادنا الغالية التي تأسست بنية ثاني أكبر مدينة فيها على أساس خاطئ، كما أفاد بذلك خبير أجنبي، عندما أعلن بأن ما جرى لك يا جدة يعُد حالة «نادرة»! نبارك لك يا جدة... فإن خبرة أبنائك الذين صرفت عليهم الدولة وابتعثتهم ورعتهم من أجل أن يتعلموا ثم يعودوا ليسهموا في بناء وتطوير بلادهم ومدنهم لم يفقهوا من علمهم شيئاً إلا بالهندسة والتفنن في كيفية ملء جيوبهم بالأموال المنهوبة من الدولة من دون وجه حق! كُل ذلك يحصل اليوم لك يا جدة، وقد يحصل غداً في أي منطقة من بلادنا العزيزة، ما دام قانون «الثواب والعقاب» لا يزال بعيداً من ثقافتنا وتشريعاتنا وفقهنا، وقد تمت الاستعانة ببديل عنه عند اكتشاف الفساد والمفسدين من مثل عبارات: مسكين، ارحموه، ضعيف، دعوه يسترزق. حقيقة كم أستغرب كيفية أن محاربة الفساد والمفسدين في بلادنا لا تزال في طورها «البدائي»! ومن دون أي مقاومة للفساد منذ عقود طويلة مضت، وأرضنا مهد الرسالة ومنبع الإسلام، وتحتضن أشرف مقدسات الأرض. منذ قدم التاريخ تحدث المصلحون والمفكرون عن هذا الوباء النجس وحذروا منه، بدءاً بحمورابي ثم طاليس وأرسطو وغيرهم، بل إن جميع الأديان السماوية حاربته بكل صوره وأشكاله وأنماطه، فلماذا لا يزال مجتمعنا وسلطتنا السياسية لا تتعامل مع هذا الداء بجدية وإيجابية إلا عند الأزمات؟! إن غياب مسؤولية الرقابة الدقيقة والمتتابعة أدخل البلاد في مستنقع ما يعرف بالفساد «الكبير»، أو اقتناص الدولة، خصوصاً من تلك النخب الذين وثق بهم المسؤولون وائتمنوا على تحمل مسؤولية المجتمع أمام الله ثم أمام الملك والدولة، فسخّروا سيطرتهم على المستويات أو الأجهزة العليا من أجل تحقيق منافع شخصية هائلة تتضمن تبديداً كبيراً لموارد الدولة والمجتمع. أتفق في هذه المرحلة مع الآراء الداعية إلى ضرورة عودة «الخبراء الأجانب» حتى وإن كلفونا غالياً من أجل إدارة البناء الأساسي للبنية التحتية لمدن المملكة، وكذلك البناء الأساسي للإدارة والاقتصاد، أو إخضاع من هم على رأس السلطات الإدارية والمالية للمراقبة، ما دام هناك الكثير ممن أثبت – ولا يزال – أنه غير كفوء وليس جديراً بالثقة! إذ لا يعُقل بعد مرور كل تلك السنوات على قيام هذا الكيان الكبير أن نكتشف، كأبناء لهذا الوطن، بأن مدننا وأحوالنا الإدارية وشؤوننا العامة والخاصة وضعت في أيدي أناس خانوا الله قبل أن يخونوا ضميرهم ووطنهم الذي وثق بأمثالهم! نحن مجتمع لا يحتاج لوضع قوانين كثيرة بقدر ما يحتاج إلى تحديد نوعية القانون وتشريعاته الذي يحارب الفساد ويطارد المفسدين أين ما ظهروا في كل زمان ومكان. فالمفسدون الذين نتحدث عنهم كثيراً، نخشى أحياناً من أن نصدم أنفسنا عندما نحاول أن نتطرق إلى تسميتهم والتشهير بهم، وهنا تكمن العلة ويكمن التناقض الذاتي معها، في الوقت الذي يعطي هذا التناقض مساحة للمفسدين كي يتربعوا على العروش بيننا ملاقين أعظم احترام وأجل تقدير! أساس المشكلة لدينا يكمن في ضعف مستوى هياكل الدولة وعدم وجود مؤسسات للمجتمع المدني تكون فاعلة ونافذة في مثل هذه المواقف، بحيث تستطيع أن تفعل الكثير للحد من خطورة الفساد الذي أصبح مستشرياً في الكثير من مؤسسات الدولة الرسمية وغيرها. فإذا قامت مؤسسات مجتمع مدني وأعطيت الضوء الأخضر لكي تمارس عملها، فإنها ستسهم بالتأكيد في الكشف عن مواقع الفساد، وترشد إلى الفاسدين، وتحفّز سلطات الرقابة والمحاسبة في بلادنا - إن وجدت - وتسهم مع وسائل الإعلام والمجتمع في ممارسة الضغوط الاجتماعية على سلطات الرقابة والمحاسبة والقضاء من أجل القيام بواجباتها تجاه «عبيد الرشوة والفساد» الذين ألحقوا الضرر بالمصالح العامة للمجتمع من أجل مصالحهم الخاصة. إن مكافحة الفساد كوسيلة تفضي إلى تشكيل اللجان أو الحملات الموقتة، خصوصاً في وقت الأزمات، والتركيز الإعلامي على استهداف بعض الأشخاص أو المؤسسات أو الشركات على اعتبار أنها هي المسؤولة عما يحدث من كوارث داخل الدولة على نحو نمطي، وعلى حساب منع ارتكاب الفساد من أساسه ومحاولة خلق حوافز تشجع على الاستقامة وبث ثقافتها داخل المجتمع، كل ذلك يؤدي الى نتائج عكسية وليس إلى معالجة الأسباب الجوهرية للفساد. ولهذا فإن أي مبادرة موقتة تهدف إلى مكافحة الفساد ستخلف آثاراً متواضعة لا تتعدى مقولة «ضرورة القيام بعمل ما» لمواجهة الضغوط الاجتماعية، الأمر الذي سيؤدي إلى إهمال إصلاحات هي أكثر أهمية من وجهة نظري من غيرها من الأمور الأخرى، وتتمثل في ضرورة العمل على تحسين إدارات الدولة كافة، ومحاولة تلمس الحقائق من أبناء المجتمع قبل غيرهم من المسؤولين، الذين أصبح الفاسدون منهم عبئاً على مجتمعهم، ويمثلون «بطانة السوء» لولاة الأمر عندما يعكسون حقائق الأمور ويزيفونها وفقاً لمصالحهم الخاصة بدلاً من الاعتراف الشجاع بأخطائهم، والعمل على إصلاحها. إن النخب العلمية والإعلامية تتحمل مسؤولية مهمة في مثل هذه الظروف من خلال نقل الوقائع لولاة الأمر بصدق غير مبالغ فيه في الوقت نفسه الذي يتطلب الأمر منهم متابعة التحقيقات بالنسبة الى هذه الكارثة حتى وإن تشعبت أو تعقدت أو طال بها الزمن، مع استمرار الضغط من أجل الكشف عن المفسدين الذين مارسوا فسادهم «الأسود» بحق هذا الوطن وأبنائه والمقيمين على أرضه، وذلك من منطلق أن هذا هو «مبدأ» الجميع. * أكاديمية سعودية [email protected]