مما لاشك فيه أن مساء الاثنين «30 (تشرين الثاني) نوفمبر لعام 2009» سيبقى خالداً في ذاكرة المواطن الجمعية... المدة الزمنية القصيرة جداً بين فجيعة المواطنين على «كارثة جدة» وبين مواساتها والمسح على قلبها، بالاستبشار بانتفاضة الملك الإنسان في أمره الملكي، وتحديداً في لجنة «المحاسبة» التي جاءت كالفيصل – ولها يقيناً من اسم القائم عليها النصيب الأكبر - الذي سيقصم ظهر كل فرد استغل مسؤولياته في غير وجه حق. في إطار سعي أي جهاز حكومي للقيام بمهماته يجدر به أن يجد نفسه في عملية تفاعل مستمرة مع الفرد أو المواطن، وخلال عملية التفاعل تقع سلسلة من الأفعال وردود الأفعال، يتم ترجمتها إلى صورة ذهنية تتكون لدى المواطن بشكل فردي، وقد تتحول في وقت لاحق إلى صورة جماعية تتقاسمها مجموعة من الأفراد، أو صورة عامة تشيع وتنتشر بين شرائح مختلفة من المواطنين، ترتبط بسلوك ونشاط المنظومة الحكومية بمكوناتها المختلفة أثناء قيامها بالوظائف المنوطة بها. ولعل دقة هذه العلاقة تنبع من عاملين رئيسين: أولهما؛ أهميتها القصوى؛ لما تتضمنه ثقة المواطن من انعكاسات على عمل الإدارات الحكومية المختلفة، وثانيهما، لصعوبة التحكم التام في ديناميكية تطور العناصر المكونة لهذه العلاقة وتفاعل بعضها مع بعضها الآخر. يجمع المتخصصون على أن المفهوم البسيط لمصطلح «صورة المنشأة» يعني الصورة العقلية التي تتكون في أذهان الناس عن المنشآت والمؤسسات المختلفة، وقد تنبع هذه الصورة من التجربة المباشرة أو غير المباشرة، وقد تكون عقلانية أو غير عقلانية أو غير رشيدة، وقد تعتمد على الأدلة والوثائق أو على الإشاعات والأقوال غير الموثقة، ولكنها في نهاية المطاف تمثل واقعاً صادقاً بالنسبة لمن يحملونها في رؤوسهم. يميز الباحثون بين أنواع للصورة الذهنية، فالصورة المرآة هي تلك التي ترى المنشأة نفسها من خلالها، والصورة الحالية هي التي يرى بها الآخرون المؤسسة، أما الصورة المرغوبة، فهي الصورة التي تود المنشأة أن تكونها لنفسها في أذهان الجماهير، والصورة المثلى: هي أمثل صورة يمكن أن تتحقق إذا أخذنا في الاعتبار منافسة منشآت أخرى وتأثيرها على الجماهير، ولذلك يمكن أن تسمى بالصورة المتوقعة، وأخيراً: الصورة المتعددة؛ وتحدث عندما يتعرض الأفراد لممثلين مختلفين للمنشأة يعطي كل منهم انطباعاً مختلفاً عنها، ومن الطبيعي ألا يستمر هذا التعدد طويلاً، فإما أن يتحول إلى صورة إيجابية وإما إلى صورة سلبية، وإما أن تجمع بين الجانبين صورة واحدة تظللها العناصر الإيجابية والسلبية تبعاً لشدة تأثير كل منهما على هؤلاء الأفراد. إن اختلال معادلة الوطنية والمواطنة، يفسح المجال لظهور نماذج متعددة لأنماط سلوكية فردية أو مهنية، سواء من المواطن العادي أو الفرد المسؤول، تحول دون الوصول إلى الوضعية الصحيحة للعلاقات بينهما. بالنسبة للمواطن قد يسود لديه «نموذج الشك وفقد الثقة"، وفي ما يخص الفرد المسؤول قد يتم رصد نماذج سلبية من قبيل» التعسف» أو «التجاوز» أو «استغلال» السلطة الممنوحة لمصلحته الشخصية على حساب مصلحة الآخرين من المواطنين، أو المصلحة الوطنية العامة والمشتركة، مما قد يشعر المواطن «بالغبن» أو «القهر"، ويفرغ شعار ما وُضع الجهاز الحكومي - الذي يمثله ذلك المسؤول – إلا لمصلحة المواطن والوطن من مضمونه، أو «المساس بحقوق المواطن الخاصة"، الأمر الذي ينعكس سلباً على شعور المواطن بالانتماء. لا جدال في أن سيادة معادلة تعمل غير سوية ينتج عنها حدوث بعض التجاوزات من المسؤول من جانب، وتبلور صورة ذهنية سلبية لدى المواطن عن تلك المنظومة الحكومية تميل أكثر فأكثر إلى التعميم، خصوصاً إن استمرت التجاوزات حتى وإن ندرت من جانب آخر، في إطار عام من الضغوط العامة المتعددة كالضغوط الاجتماعية والاقتصادية، قد تدفع في بعض الأحيان إلى شيوع حالة من التوتر النفسي والتحفز لدى الفرد المواطن، الأمر الذي يفرز الكثير من التداعيات السلبية، ليس فقط على جهود تكريس مفهوم المواطنة، ولكن أيضاً على كفاءة عمل أي إدارة مؤسسية جديدة في مواجهة التحديات التي تتسع دوائرها وتتعدد مخاطرها لتشمل كلاً من المواطن والوطن. وإزاء هذا الأمر وحتمية إدخال تغيير تاريخي وجذري على تصورات الفرد المواطن أولاً بما يحقق تغيرات ملموسة وواضحة في ممارساته المواطنية، باعتبار ذلك شرطاً ضرورياً وإن لم يكن كافياً، يلزم الوصول إلى معادلة تشمل كلاً من الصرامة والحزم من جانب، واستمرار التطبيق وتوسيعه، فضلاً عن التأهيل الذهني المتواصل للمواطن من جانب آخر، ومما لاشك فيه أن هناك علاقة تكاملية بين مكونات هذه المعادلة. هذا «الواقع الذهني» تجاه «المنشأة » أو اللجنة، سلبياً كان أم إيجابياً، هو نتاج مجموعة من العوامل التي تتفاعل في ما بينها لرسم معالم تلك الصورة، ومما لا شك فيه أن الفرد المواطن – بسلوكياته وخلفياته – والمسؤول – بممارساته وأولوياته – يتحركان في إطار مجتمعي أوسع، يموج بظواهر عدة تؤثر على علاقة التعامل – بشكل مباشر أو غير مباشر – وتنتقل بها إلى ملفات أخرى، لا تقع بشكل مباشر في الدائرة الضيقة لاختصاص اللجنة، وإن كان عليها التعاطي مع تبعاتها على أداء وسير عملها. وفي هذا الصدد تبرز أهمية معالجة الأسباب الكامنة وجذور المشكلات في المجتمع، التي تعوق جهود تكريس «المواطنة» من جانب، وتفرز تحديات متجددة أمام المسؤول الجديد وجهته في تأدية مسؤولياتهما بصدق وأمانة من جانب آخر، تنعكس ليس فقط على تعامل الأفراد المواطنين بعضهم البعض، ولكن أيضاً على طبيعة علاقاتهم المهنية وأداء مسؤولياتهم الفردية تجاه أعمالهم، بل وتصل في بعض الأحيان رابطة الانتماء والولاء. إن عملية تكريس «نموذج تعاطٍ إيجابي» مطلب أعتقد جازمة أن هذه اللجنة الفاصلة – وبفيصلها - ستؤدي إلى تجسيد «المواطنة"، وتحقيق «علاقة» متبادلة بين المواطن والمؤسسة الحكومية، في إطار مواطنة فعلية تربط بين الكتلة البشرية المتمتعة بحقوقها، والمدركة لواجباتها «الشعب»، والوعاء الجغرافي «أرض الوطن»، والسلطة التي تقع عليها مسؤوليات ضبط إيقاع المجتمع، وتحقيق أمنه ونهضته ورخائه. * باحثة سعودية في الشؤون الأمنية والفكرية. [email protected]