في كانون الأول (ديسمبر) من كل عام، يتابع السعوديون الإعلان البروتوكولي المهيب للموازنة العامة للدولة، مرتقبين الرقم الأهم: وهو الإيرادات العامة، ومستمعين بإنصات للاعتمادات المالية، متأملين في اعتماداتٍ حقيقتها تنفيذ مشاريع التنمية، ومعايشين لواقعٍ ما زال بعيداً عما كُتب على الورق. وفي العام الماضي، قال رئيس ديوان المراقبة العامة إن هناك «فجوة »بين دور ديوان المراقبة «اللاحق»، ودور وزارة المالية «السابق »في صرف ومتابعة الاعتمادات المالية، وهو ما يطرح التساؤل عن كيفية تجسير الهوة بين «ما قبل »و «ما بعد»، خصوصاً بعد الإعلان عن تقرير الديوان الأخير. ويقول الخبير الاقتصادي عبدالله الفوزان إن الموازنة التقديرية: «هي وثيقة وبرنامج توضح الأهداف والأولويات والموارد المطلوبة، وتلخص كل العمليات والأنشطة وكيفية استغلالها لتحقيق تلك الأهداف خلال فترة زمنية محددة، وتكون غالباً لفترة عام واحد تبدأ وتنتهي مع بداية ونهاية السنة المالية للمؤسسة». وأوضح الفوزان أن الموازنة الشاملة لمؤسسة ما تتكون من موازنات الوحدات الإدارية المكونة لها، ومسؤولية إعداد أو توفير البيانات التي تدخل في موازنة كل وحدة إدارية تقع على عاتق مدير تلك الوحدة، وهذا يتطلب منهم الإلمام بالتوجهات العامة للإدارة العليا وبالخطط الاستراتيجية للمؤسسة، من خلال الاجتماع مع الإدارة العليا والمناقشة والاستفسار والحصول على وثيقة الخطة الاستراتيجية. وأكد أهمية هذه المعلومات كونها تمثل الإطار العام لإعداد الموازنات، كما أنها تحقق الانسجام في أداء الوحدات الإدارية بالمؤسسة لتحقيق الخطط الاستراتيجية. وتحت مظلة هذا الإطار التنظيمي، يؤكد الفوزان أن المشكلات التي تعترض ربط الموازنات الحكومية بالاستراتيجيات تتمثل في: «سوء فهم الرؤى والاستراتيجيات، وهو ما يجعلها غير قابلة للتنفيذ، وافتقار المؤسسة لقنوات اتصال توضح التوجهات الاستراتيجية داخل المؤسسة، ووضع أهداف تفصيلية عامة وغير قابلة للقياس وللإدارة، وعدم إجراء التحديث المستمر للاستراتيجيات والأهداف». وتابع يقول: «وتشمل المشكلات عدم شمولية الأهداف التفصيلية للتوجهات الاستراتيجية، كما أن أهداف الأداء إما عالية جداً أو متدنية جداً، إضافة إلى وجود فجوة في فهم مشاركة ودور الموظفين في ربط الموازنات والاستراتيجيات». وبخصوص مفهوم الموازنة الصفرية متوسطة المدى، الذي حاز على الكثير من الاهتمام أخيراً باعتباره مدخلاً جديداً في مجال إعداد بيانات الموازنات، خصوصاً في الأنشطة غير الربحية والحكومية والمؤسسات الخدمية، أوضح الفوزان أن مفهوم الموازنة الصفرية ابتداءً: «يتطلب من المدير أن يبدأ من الصفر في كل سنة وأن تبرر كل التكاليف كما لو كان البرنامج يعد للمرة الأولى». ويضيف: «يقصد بالتبرير أنه ليس هناك كلفة مستمرة بطبيعتها وأن على المدير أن يبدأ من البداية نفسها كل سنة بالصفر، بغض النظر عن نوعية هذه التكاليف». وبين أنه يتم ذلك من خلال حزمة قرارات من شأنها أن تمكن المدير من ترتيب كل الأنشطة وفقاً لأهميتها النسبية، وهذا يسمح للإدارة العليا بتقويم كل حزمة قرارات بشكل منفصل وإعادة النظر في المواضع التي تبدو أقل أهمية. وأوضح الفوزان أن الموازنات متوسطة المدى هي التي تغطي فترة زمنية تمتد من سنتين إلى خمس سنوات. وأشار إلى أن الفارق الجوهري بين نظام الموازنات الصفرية متوسطة المدى ونظام موازنة البرامج والأداء المعمول به حالياً، هو أن النظام الحالي سنوي ويعتمد على توقعات المصروفات والإيرادات والمشاريع. أما نظام الموازنة متوسطة المدى فيتم من خلاله إعداد مشروع متكامل للموازنة، ويصدر بها قانون واحد عن الفترة التي تغطيها الموازنة، وفي نهاية كل سنة تتم مراجعات بسيطة للبرامج والإنجازات وإجراء تعديلات مرحلية مرنة للاستفادة من الموارد المتاحة. وحول إمكان تطبيق الموازنة متوسطة المدى، أشار إلى أن التطبيق يتطلب المرور بمراحل عدة، الأولى، يتم خلالها إجراء دراسة الوضع الحالي عن كل جهة حكومية، ثم اختيار عدد محدود من هذه الجهات لتطبيق نظام الموازنة متوسطة المدى عليها بشكل تجريبي وتحديد منسقين من تلك الجهات الحكومية للتشاور بهذا الشأن، ثم وضع دليل سياسات وإجراءات إعداد الموازنة وفقاً لهذا النظام والبدء من الصفر لإعداد المشاريع المستقبلية. وأكد ضرورة ترجمة الأهداف والتوجهات الاستراتيجية الحكومية العامة وبحث كل العناصر الاستراتيجية وإضافتها إلى الموازنة الصفرية، وتوفير التدريب اللازم للمتخصصين العاملين في مجال إعداد الموازنات في الجهات الحكومية لتمكينهم من القيام بإعداد موازنات من هذا النوع، خصوصاً أن هذا النظام يتطلب جهداً كبيراً في البداية، ولأن عملية التحول تحتاج إلى الدقة والدراسة المتأنية وتعريف القائمين على العمل المالي في الجهات الحكومية بأهمية هذه الخطوة وفائدتها. وحث على ضرورة تضافر الجهود بين مختلف الجهات الحكومية مع وزارة المالية. وعن فوائد هذا النظام قال: «تسريع الإجراءات المالية والإدارية بين وزارة المالية والجهات الحكومية، وتعزيز مبدأ الشفافية والإفصاح، وإيجاد التعاون بين وزارة المالية والجهات الحكومية لتحقيق استراتيجية رفع مستوى الأداء الحكومي وتقديم أفضل الخدمات، وإيجاد إطار واضح للخطط المستقبلية للجهات الحكومية تستطيع من خلاله وضع تصوراتها على أسس مدروسة وثابتة». واستطرد يقول: «كما أن الموازنات المتوسطة المدى ستوفر قدراً أكبر من الحرية والمرونة للقائمين على إعداد الموازنة بدراسة كل الخيارات وتحديد الاختيار الأنسب، والتقليل من حجم التفاوت في الآراء خلال المناقشات السنوية، لأن الكلفة تكون محددة ومعروفة منذ البداية». وأضاف أن: «تطبيق هذا النظام سيؤدي إلى دفع وترقية عملية التحول من «الأساس النقدي »إلى «أساس الاستحقاق »في المحاسبة، والذي طبقته عدد من المؤسسات الحكومية أخيراً، وهو ما جعل المملكة رائدة في هذا التطبيق، إضافة إلى التركيز على الإنفاق المخطط وتسهيل إجراءات التحديث والمراجعة السنوية، وتكوين تصور أفضل لدى الحكومة عن الحاجات التمويلية».