هذا الأصفر الرنان يأخذ بالأبصار وتهفو له النفوس، ويأسر وجدان النساء مثلما الرجال، وحبه جبلة وفطرة في الإنسان فقد زينه الله له مثلما زين له البنين والنساء والخيل المسومة فقال تعالى (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ) آل عمران الآية 14، فمنذ فجر التاريخ والذهب يحظى بالقدر المعلى لأهميته البالغة كمخزون للقيمة وادخار الثروات، ومع مرور الزمن أدت وظيفة الذهب كمخزون للقيمة إلى استعماله كوسيلة للدفع والتبادل التجاري، وقبل ان نرى العملات الورقية بألوانها الجميلة، وقبل ان يظهر ما يطلق عليه اليوم عملة سهلة او عملة صعبة، بل قبل ان يكون هناك ما يعرف اليوم في المصطلح الاقتصادي (بسلة العملات) او حقوق السحب الخاصة او أسواق الأوراق المالية وأسواق النفط وصناديق الاستثمار... الخ، كانت هناك العملات الذهبية والفضية التي تقوم بالدور الرئيس في التداول التجاري. والذهب علامة الغنى ودليل اليسار من ملكه عاش رغد العيش وملك أسباب الثراء، ولذلك قال عنه كريستوفر كولومبوس عام 1503: (إن الذهب شيء ساحر ومن يملكه فقد امتلك كل ما يرغب فيه)، وان كانت هذه المقولة صادقة أيام كولومبوس عن هذا المعدن النفيس فإنها لا تزال تصدق عليه اليوم حيث يعتبره الكثيرون ملاذاً آمناً لحفظ ثرواتهم وسط تقلب أسعار العملات وتدهور سعر صرف الدولار الأميركي العملة الرئيسة في العالم! وعلى رغم تحول الناس إلى استعمال النقود الورقية والسندات المالية والتعامل مع البنوك والمصارف وشركات الاستثمار على المستويات الداخلية والدولية لتؤدي الوظائف بشكل عصري متطور واستساغ الناس كثيراً حمل الأوراق النقدية وتداولها بل وبطاقات الائتمان بدلاً من حمل الذهب والفضة لسهولة التعامل وسرعة التبادل التجاري بها الا ان الذهب يبقى محتفظاً بلمعانه وقدرته على التأثير في الناس كصندوق أمان لتخزين ثرواتهم اذا ما هبت الرياح عاصفة على العملات الدولية وانهارت بعض أسعار صرفها كما حدث ويحدث للدولار المريض. اليوم تشهد أسعار الذهب ارتفاعاً تاريخياً غير مسبوق أثار اهتمام الأوساط الاقتصادية والاستثمارية في كل مكان، فقد زاد لمعان الذهب توهجاً في ظل تقلبات أسعار العملات الدولية وفي مقدمها الدولار الذي فتح الباب على مصراعيه لارتفاع محموم في أسعار الذهب والفضة والبلاتين وغيرها من المعادن النفيسة. واذا كان تقلب أسعار العملات الرئيسة سبباً رئيساً في تقلب أسعار هذا المعدن، إلا ان هناك أسباباً لا تقل أهمية في التأثير على أسعاره فالحروب والصراعات هي في حقيقة أمرها مغذ رئيس لأسعار الذهب فالناس تهرول إلى اكتنازه مع حدة اشتعال الحروب والصراعات ، ففي عام 1979 عندما اجتاح الاتحاد السوفياتي السابق أفغانستان ومع اندلاع الثورة الايرانية والحرب العراقية - الإيرانية كسر سعر الذهب حاجز 700 دولار للأوقية واعتبر هذا السعر في تلك الفترة خرافياً وأن الذهب قد بلغ بأسعاره الثريا، وما ان هدأت نيران الحروب والثورات حتى عادت الأسعار إلى التدني سريعاً. ومع تأجج نيران الحروب والصراعات في الفترة من عام 2002 وما بعدها والتي شهدت احتلال أفغانستان ثم العراق كما شهدت الوضع المتردي في الصومال والسودان واليمن وكلها للأسف من بلاد المسلمين، بدأ الذهب يتطاول برأسه عالياً وأخذت أسعاره في الارتفاع المستمر حتى كسر سعره الأربعاء الماضي حاجز 1216 دولاراً للأونصة لأول مرة في التاريخ. وليست الأسباب السابقة وحدها هي التي أدت إلى ارتفاع أسعار الذهب، فهناك أسباب أخرى دعمت ارتفاع أسعاره ومنها الكساد الاقتصادي العظيم الذي ضرب اقتصادات العالم بادئاً مسيرته من أميركا صاحبة أكبر اقتصاد عالمي، ليشمل من بعدها العالم أجمع غنيه وفقيره. هذا الزلزال الاقتصادي أرغم الدول وفي مقدمها الولاياتالمتحدة على خفض الفائدة لتصبح صفراً تقريباً في بعض الدول ما جعل هذا الخفض الكبير في سعر الفائدة غير مشجع على الإطلاق في مجال الودائع قصيرة الأجل وطويلة الأجل، وجعل بريق الذهب يزداد لمعاناً وتقفز أسعاره قفزات سريعة كأنها قفزات الغزلان. إذاً الحروب والصراعات وعدم استقرار أسعار العملات الرئيسة وتذبذبها وانهيار سعر صرف الدولار وخفض الفائدة وحالة عدم اليقين التي يعيشها المستثمرون شجعتهم على الدخول في استثمارات قصيرة الأجل وطويلة الأجل، يراودهم الأمل بأن يحقق الذهب ارتفاعاً كبيراً كما حدث في نهاية عام 1979 وأوائل عام 1980 ذلك الارتفاع الذي كان مصاحباً الحروب والصراعات والثورات التي ذكرناها آنفاً. ولم يخيب الذهب (حصان المستقبل) ظن المستثمرين، فتسارع ارتفاع أسعاره حتى أذهلت معظم المختصين والمستثمرين الذين جنى معظمهم أرباحاً طائلة من وراء هذا الارتفاع التاريخي، كما جنت ثماره الدول الرئيسة المنتجة للذهب كجنوب أفريقيا وروسيا والولاياتالمتحدة وكندا وأستراليا، وهو ما دعم موازاناتها في ظل عاصفة الكساد الاقتصادي العالمي، ليصدق عليهم المثل القائل (مصائب قوم عند قوم فوائد). ومع حالة عدم اليقين التي يعيشها الاقتصاد العالمي والمؤثرات الاقتصادية والسياسية الدولية وفي ظل أجواء الحروب والصراعات الدائرة في العالم لتقسيم مناطق نفوذ جديدة، وأزمة الملف النووي الإيراني وغيرها من الأزمات العالمية، فإن الذهب سيزداد لمعانه، وسيقبل عليه المستثمرون والمضاربون لجني الأرباح السريعة، بل إن أهميته ستزداد بالنسبة الى الاستثمارات الشخصية لاعتقاد الكثيرين أن فيه ملاذاً آمناً للثروة وأنه حماية من الإفلاس، ناهيك عن مكانته العالية كسيد للمجوهرات ووسيلة للزينة، لذا فإن ارتفاع أسعار الذهب على المدى الطويل قد يعد كافياً ليوازن القوة الشرائية للنقود التي تتآكل بسبب التضخم، خصوصاً إذا لم تقفز أسعاره إلى أرقام قياسية جديدة. إن الذهب على رغم عدول العالم عن (قاعدة الذهب) إلا أن ارتفاع أسعاره الذي أدت إليه الأسباب التي ذكرناها، قد تكون ظاهرة موقتة لا تلبث أن تهدأ عاصفتها بعد حين، وقد تكون ظاهرة لها أثرها البعيد على المستوى الاقتصادي والنقدي العالمي، وقد تكون لعبة بارعة يتم التخطيط لها ببراعة من وراء ستار كما حدث في أسواق الأسهم التي رجّت العالم رجاً وأدت إلى انهيار بنوك عالمية كبرى وسقوط شركات عظمى ما طرأ على بال أحد في الخيال البعيد. * رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية [email protected]