الأحد 22/11/2009: سلام قرأنا الكتب نفسها وتجاورنا في غير مقهى وتقاربت أحلامنا، نحن جيل الحلم كسرتنا الحروب ولم نمت، ربما لأننا لم نحارب أو لأن الرصاص الطائش أخطأنا. وكم أمسكنا بحبل الدولة في وطننا لبنان، حفظناه حين كاد يتقطع، فلما انتهت الحروب، هكذا بلا شرح، لم نعرف سبباً لهذا السلام المفاجئ بعدما كنا نجهل خلفيات الرصاصة الأولى، وكم كانت كثيرة الرصاصات الأولى. لسلام الفجأة هذا دولته وحبلها الجديد المتين، يتمسك به الذين خبّأوا بنادقهم ولبسوا ثياباً مدنية. لكن خيوط ما كان حبل الدولة القديمة لا تزال محفورة في قبضاتنا، نفتح الأكف فلا يصدقنا أحد. الحبل الجديد في ايدي محاربين تائبين. ونحن على الهامش، سلامنا لنا نخرجه الى الشرفة لنتأكد ان القذائف من الماضي. لم نصدق بعد، ولا يبدو مقنعاً هذا السلام المرشح في اي وقت ووفق اي أمر ليشتعل حرباً تسدل الستار على الأمل. نفتح أكفّنا المجرّحة مؤكدين مناهضتنا الحرب، لغة الحرب، ولا يهتم احد بمشهدنا وأصواتنا. نحن الجيل الخائب يعتز بخيبته، يسميها سلاماً في أي وقت وأي مكان. الاثنين 23/11/2009: مؤتمرات مؤتمرات في عالمنا العربي، غالبيتها الى النسيان بعد عودة المدعوين الى بلادهم، وبعضها تُجمع أوراقه في كتاب يبقى حبيس المخازن أو رفوف المكتبات، خصوصاً تلك المؤتمرات المعنية بالسياسة والاجتماع والنفس والأدب والفن. وحدها المؤتمرات التي تحقق عندنا نقاطاً جديدة هي تلك التي يعقدها رجال الأعمال فيتبادلون خبراتهم ويتفاعلون أو يتعاونون في شأن لا يقدر عليه رجل أعمال واحد أو شركة واحدة. قبل أيام حضرت مؤتمراً خارج العالم العربي، ولاحظت أحد الحاضرين يدوّن ملاحظاته باهتمام يتميز به عن غيره. سألت فقيل لي إنه مبعوث وزارة معنية بالشأن الإنساني الذي يتناوله المؤتمر، وأنه يدوّن الملاحظات لعلها تشكل فائدة لوزارته. هناك لا يهملون المؤتمرات فيتركونها للمشاركين وحدهم، يحاولون ما أمكنهم الاستفادة منها لمصلحة بلادهم. وعندنا لا تهتم الجهات الحكومية بالمؤتمرات، وما أكثرها، وهي إذا اهتمت ترسل عنصراً من جهاز أمني يراقب المشاركين، متمعناً في وجوههم، متأملاً أقوالهم ليحاول تفسيرها، وأحياناً تأويلها، وصولاً الى الإجابة عن سؤال وحيد يعنيه: هل يشكل المؤتمر، أو جانب منه، خطراً على الأمن الوطني، اي أمن النظام؟ الثلثاء 24/11/2009: دون كيشوتات عشب عند حواشي الرمل، قبل غيبة طويلة، والبحر القريب أول الماء وآخره حيث مسقط الشمس الأرجوان. هنا كان ملعبنا نتقاذف الكرة وعناوين الكتب ونلهج بالقصائد الأولى، كلمات الذكاء الخاطف ضاحكين للوجه الصبح، للوجوه. نتباهى ونباهي بأزياء فتوتنا، بالتحرك كما ممثلي هوليوود، وسامتنا من جبال قريبة، وشدّتنا تغلب رخاوة الساحل والخدود الأسيلة، والعيون المسبلة الجفون. نظرة الصقور نظرتنا وحضورنا للاستحواذ كأننا نرغب بجاريات لا بحبيبات. نكتب الفخر لا الغزل لأننا النعمة وليس لهن سوى رجاء القبول. فرسان الوهم من رآنا بعد حين في المكان والفتيات إياهن صرن كاتبات نجمات أو باحثات جامعيات أو أمهات حانيات؟ كيف لا يأبهن، وقد يسخرن ضمناً، بآخر العافية نشهره مجدداً ونخترع لذلك شاطئاً معشباً وبحراً بلا حدّ، وغناء لم يسبقه غناء؟ دون كيشوتات الغرام عند شاطئ جفّ بحره صار طريقاً للسيارات السريعة. نعبر لاهثين من رصيف الشرق الى رصيف الغرب، ثم نجلس مثل طلاب في يوم دراستهم الأول، تماماً قرب مبنى السوق الكبير حيث يدخل المشترون ويخرجون بسياراتهم. المكان ليس للمشاة ولا أثر لأقدامنا حين كان يتألق زمن وقراءات وكتابات. أول فنوننا كان وهماً وحصدناه، نتمسك بوهم السنابل لا يرانا أحد ولا يتذكر ولا يشتري تحفة الوهم. ذلك الحنان الباقي يذهب الى غيرنا، ونقبض على الوهم حصادنا الوحيد. الأربعاء 25/11/2009: جذور في الهواء على قلة النصوص الأدبية المترجمة من العبرية، نميل الى قراءتها وفق معيار سياسي فنقبل وجود أدب عبري، اي منسوب الى لغة، ونرفض وجود ادب اسرائيلي سواء كتب بالعبرية أو بغيرها. لن تتغير كثيراً هذه المقاربة في وجود الصراع العربي - الإسرائيلي المشتعل أو الكامن. ويمكن ان ننسب الى الخفة تلك المقالات التي تصطاد من الأدب العبري مواقف معارضة للنظام الإسرائيلي أو المتسائلة عن كنه المجتمع/ المجتمعات في إسرائيل. فتلك المقالات وعلى رغم صوابية تلك المقالات في أحيان، نجدها تهمل أو تكاد الحضور العام للأثر الأدبي وطبيعة تكويناته وما يترك من أثر، كأنها تكتفي بدلالة واحدة وتهمل سائر الدلالات. وإذا كانت قليلة الأعمال الأدبية المترجمة عن العبرية، فالأحرى ان نتفحص هذا القليل، خصوصاً ان الأدباء الإسرائيليين ينتمون الى سلالة الأدب الأوروبي والأميركي من حيث البناء الفني ومقاربة الطبيعة والإنسان. دعوة الى التفحص لا تفي بها إشارتنا التالية الى رواية روث الموغ «جذور في الهواء» التي ترجمها من العبرية محمد أبو غدير وأصدرتها الدار العربية للنشر في القاهرة. في مقدمة الكاتب الناشر أمين المهدي ان «عنوان الرواية مأخوذ من شجرة المنجروف، وتسمى في مصر التين البنغالي، وهي ترسل جذوراً من عقد الفروع تنزل الى الأرض وتتحول جذوعاً جديدة. والجذور في الهواء عند روث الموغ هي الهوية المعلقة والمؤجلة، فلا هي أوراق مرفرفة على الأغصان ولا هي جذور متوغلة في التربة. إنه موقف ووعي بطلة الرواية في أزمتها الوجودية داخل اسرتها ومع اشخاص يعانون الهستيريا في قرية شائكة العلاقات وفي المجتمع الكبير الغامض والحالك». يصنف المترجم الرواية في أدب ما بعد الصهيونية، لكنها تبقى مرآة لمجتمع لم يتكون بعد، وربما تؤدي الى سؤال يؤرق ضمير المبدع الإسرائيلي حين تشد به الإيديولوجيا السائدة الى معنى واحد للاجتماع: التاريخ الديني، فلا مكان للمشككين، وإذا كان الإبداع الفني صادراً عن الشك، وهو كذلك، فلا مكان للإبداع في الاصطفاف الإسرائيلي، اليميني بالطبع. وإذ يكتب المبدعون في إسرائيل فكأنهم يبارزون التوراة باعتباره كتاب تاريخ وسير، اي رواية مقدسة، لذلك نجد أكثرهم يحاول الإقامة معظم السنة في أوروبا أو أميركا ليتنفس، أو أنه يعيش عزلة في المجتمع/ المجتمعات في إسرائيل. بطلة رواية روث الموغ تختار الرحيل/ العودة الى أوروبا بعدما انهكتها عملية الوعي الأول في قرية اسرائيلية وهي تنفذ بذلك ما كانت امها ترغب فيه ولا تحققه: المغادرة نهائياً، ففي القرية كانت الأم شبه فاقدة مهارتها وهوايتها، العزف الموسيقي والغناء، ومع الأم هناك من فقدوا في أرضهم الجديدة المعاني التي تستحقها شخصياتهم: المثقف صاحب الدكان يعبر عن مأساته بالسخرية، والعالم صاحب الدكان الآخر ينصرف الى وضع قاموس عن الأعشاب البرية في القرية ومحيطها. أما المهاجرون من اليمن ففي طرف القرية يقيمون غيتو خاصاً في بلد قيل انه وطنهم الموعود. بطلة الرواية الحائرة بين ماضي امها وأحلام المستقبل، تعيش التجارب على قاعدة التمرد، ما يؤهلها للانتماء مجدداً الى أوروبا حيث يهود هناك، غير اسرائيليين، وأحلام طلاب الستينات بثورة دائمة. ولا يستطيع القارئ العربي ان يمنع نفسه من ملاحظة الانقطاع بين سكان القرية والمكان، فيداخله احساس بأنهم غرباء على التراب والعشب، وأن المجتمع مثل شجرة سنديان يحتاج سنوات طوالاً ليتأصل في الأرض. مجتمع يقوم على التراث الديني ولا تراث حقيقياً يصله بالمكان حيث يعيش ويصارع للبقاء. هذه الإشكالية في وعي أي كاتب مبدع وأياً كانت انتماءاته الفكرية. تكتب روث الموغ في روايتها: «فجأة أحسّ بالمياه تسقط على فمه، أخذت المياه تنساب داخل فمه الذي فتحه احدهم بقوة، ثم سمع شخصاً يقول: يا خواجة، يا خواجة. انطفأ وميض الكوكب العملاق داخل عينيه، وعندما فتحهما شاهد عربياً شاباً ينحني فوقه ويصب الماء في فمه من قربة ماء. الآن وبعد ان فتح عينيه، وضع العربي كف يده وراء رأسه، وقرّب فمه بحرص الى فم القربة حتى لا يسكب الماء على الأرض. بعد ان شرب لفدوفي قليلاً من الماء عاد ووضع رأسه بحذر على جذوع شجرة الصبار. جلس العربي بجواره برجليه المتشابكتين وتطلع إليه. هذا الشاب العربي أقرب الى الصبي، وكان جميل الطلعة، عيناه في شكل ثمار اللوز، ولكن لسبب ما بدتا أشبه بالشجيرات التي اكتست باللون الأزرق. ربما لأن اللون البني العميق والحرارة أضفيا عليهما بريقاً ورطوبة. كان جلد وجهه الأسمر قوياً، ولكن، عندما ابتسم، كشف عن عيوب في أسنانه. امسك لفدوفي بكمِّ ردائه وقال: من أين؟ «من غزة» أجاب الفتى. حاول لفدوفي الجلوس لكن قواه لم تسعفه، لذلك مد يديه الى الأمام فوقف الشاب، الذي فهم مراده، وأمسك بهما وجذبه ليساعده على الجلوس. قال لفدوفي: يومان وأنا أسير في الصحراء لم أجد الماء، ولم أعثر على طعام والشمس جففت الأعشاب. جلس العربي بجوار لفدوفي، وأخذ حماره يقضم بعض الأشواك النابتة من حوله. قال العربي: يوجد يهود هناك. ليس بعيداً. واشار في اتجاه الجنوب الشرقي. قال لفدوفي: اليهود يعودون الى وطنهم. وأنت، هل سبق ان كنت في مكة؟ عاد العربي يقول: هناك، هناك، يوجد يهود. لكن لفدوفي تعنت وقال: بلادكم كبيرة ومترامية الأطراف. النبي مدفون هناك، هذا هو وطنكم، لماذا لا تعودون مثلنا؟ ظهر الغضب على العينين اللوزيتين البنيتي اللون للشاب العربي. وردّ قائلاً: «هذا هو مكاني، إنه هنا، ليس لدي مكان آخر».