قبل أيام نقلت صحيفة بريطانية عن تقرير سري لوزارة الدفاع ان خلافات عميقة تفصل بين القادة العسكريين الأميركيين والبريطانيين في العراق، وان قائد القوات البريطانية الجنرال اندرو ستيوارت يعتبر ان قدرة بريطانيا على التأثير في السياسة الأميركية هناك ضئيلة، بسبب الفوقية التي يتعامل بها الأميركيون «القادمون من المريخ» مع حليفهم الرئيسي وتمسكهم بمواقفهم وخططهم. لكن هذا ليس جديداً. فمنذ ألحقت بريطانيا نفسها بالسياسة الاميركية في عهد رونالد ريغان وهي تعاني من هذه المعاملة. وكان شريط بثته تلفزيونات العالم لحوار التقط صدفة بين جورج بوش ورئيس الوزراء السابق توني بلير خلال اجتماع لمجموعة الثماني في روسيا في 2006 كشف عن خلل واضح في التعامل بين الطرفين، واحد يملي بلهجة نزقة والثاني يتبع ويبرر. وهكذا فإن التحقيق الذي بدأته لجنة بريطانية حول حرب العراق والأسباب التي دعت لندن الى التورط فيها، لم يأت استجابة لمطالبات مئات آلاف البريطانيين الذين عارضوا الحرب وتظاهروا ضدها، ولا بسبب آلام واحتجاجات عائلات الجنود الذين سقطوا خلال سنوات الاحتلال، وليس بسبب صحوة ضمير مفاجئة ألمّت بالقيادة البريطانية، بل لأن الحزبين البريطانيين المتناوبين على السلطة، «العمال» و «المحافظين»، واللذين تشاركا في تأييد الحرب وتبريرها، يشعران بأن عليهما اللحاق بالتحول الذي حصل في الولاياتالمتحدة مع مجيء إدارة تعتبر هذه الحرب خطأ تسعى الى تصحيحه بأسرع ما يمكن. ويعتقد البعض أيضاً ان التحقيق محاولة لإعلان ابتعاد «العمال» عن مرحلة بوش - بلير مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية في منتصف 2010 على رغم ان السياسة الخارجية لا تشكل عاملاً حاسماً فيها، بحيث يبدو وكأن الحزب «خُدع» مثل الآخرين بالتأكيدات الاميركية عن امتلاك صدام حسين أسلحة دمار شامل. لكنها محاولة قد لا يكتب لها النجاح مع تسريب تقارير تفيد بأن القيادة البريطانية سمعت من الاميركيين قبل اعتداءات 11 ايلول 2001 عن رغبتهم في إطاحة نظام صدام، وان حكومة بلير ادركت بعد فوز بوش بالرئاسة في العام الفين ان مجمل السياسة الاميركية في المنطقة ستتغير وخصوصاً في العراق، وسعت الى التكيف معها. غير ان هذا التكيف حصل على حساب الدور الأوروبي لبريطانيا، بعدما عارضت معظم الدول الاوروبية، وخصوصاً فرنسا، غزو العراق، وحاولت عبثاً إقناع لندن بالتراجع حرصاً على وحدة الموقف الأوروبي. وقد دفعت بريطانيا، وبلير شخصياً، ثمن قرار المشاركة في الغزو والتسبب في انقسام القارة القديمة، عندما اعتبره الاتحاد الاوروبي في الاسبوع الماضي «غريباً» عن اوروبا، واختار لرئاسة الاتحاد منافسه المغمور رئيس وزراء بلجيكا. التحقيق الحالي ليس الأول من نوعه في بريطانيا حول حرب العراق، فقد أجريت أربعة تحقيقات منفصلة منذ عام 2003 حول جوانب في هذه الحرب، بعضها يتعلق بالمعلومات الاستخباراتية التي استخدمت أساساً لتبرير التدخل. لكن من الواضح ان ما تحتاجه بريطانيا ليس تحقيقاً اضافياً يستخدمه هذا الطرف او ذاك لتحقيق مكاسب داخلية على حساب الحقيقة، بل تحتاج الى «أوباما» بريطاني يمتلك الشجاعة الكافية للاعتراف بجسامة الخطأ الذي حصل وأزهق آلاف الأرواح في الجانبين وكلف بلايين الجنيهات، بما يحول دون تكراره في المستقبل، لا سيما ان حرباً لا تزال دائرة في افغانستان بمشاركة بريطانية.