دأبت رنا على الاتصال بالشبكة السورية لحقوق الإنسان، وتكرار السؤال عن أي معلومة جديدة عن أخيها، وفي كل مرة يخفق قلبها في انتظار الإجابة التي لا تأتي بجديد، بالأمس انعكست الحكاية، رنا أرسلت المعلومات، رسالة قصيرة مختصرة مع صورة لبقايا إنسان... «هذا أخي». من جديد يخرج ملف «سيزر أو قيصر» للإعلام، صاحب ال55 ألف صورة لشهداء تحت التعذيب في أقبية النظام ومخابراته، وصور «سيزر» كما يسميها الإعلام العالمي ليست لأشخاص جدد، هي للشهداء أنفسهم. صور لا يمكن أن يحيط برعبها نظر إنسان عادي، 11 ألف إنسان تم تعذيبهم والتفنن بقتلهم، واقتلاع أعضائهم، وفقط من لا يوجد لها ابن في المعتقل هي من تستطيع مقاومة التفتيش بين الصور. أرسل لي أخي «الذي لم أره منذ 3 سنوات إلا عبر شاشة الكومبيوتر»، صورتين «أرجوك ساعديني... هل ترين أنه الشخص نفسه... لا يمكن أن يكون نفسه». دموعه وحرقة قلبه وصلتني في الرسالة الإلكترونية، كدت أن أصرخ «لماذا اخترتني أنا لأساعدك؟... يا حسرتي يا حبيبي!... إنه هو... هو صديقك»، أما أم الشهيد صديق أخي، فإن الله اختار لها أن ترتاح وأن يقف قلبها فور مشاهدة الصورة والتعرف إلى ابنها. اليوم ماتت خالتي، قلت لأمي «ادفنوها على عجل فقد ماتت في فراشها»، ولم أهتم للاستغراب والانزعاج في عين أمي، حتى أنني لم أفكر في أن أعزيها، ماذا سأقول «العمر إلك»، ولكنني انفجرت باكية دافنة رأسي في حضن أخت المتوفاة، «إنهن يتعرفن إلى بقايا أولادهن يا أمي... خالتي ماتت وانتهى... ابكي معي». أنا المواطنة السورية المتهمة بأنني «داعشية» لأنني أحمل جواز سفر أزرق، ينسون أنني تعرفت إلى أخي من صورة على الإنترنت، ويتجاهلون عينيّ الزجاجيتين من كثرة البكاء على أمي، أدخل إلى المطارات فتستقبلني نظرات شك، ترسل إلي إشارات غير ودودة، غالباً سيتم الطلب مني الوقوف جانباً وانتظار تسهيل أمور باقي المسافرين «غير الداعشيين وغير الباكين، والذين تخلو أسرتهم من شهيد تحت التعذيب». أنا المواطنة السورية، أكره الابتسامة، وأنتظر رغيف الخبز، أتمنى أن تموت أمي قبل أن ترى ما رأيت، ولا أمل من تكرار «ليس ابنك، ليس ابنك»، هل من قوة توقف جماح أم؟ أنا المواطنة السورية اليوم، يلقي علي التحية زميلي في العمل، فأستغرب الود الذي نسيته لكثرة أحزاني، ترمي صديقتي اللبنانية بنكتة في محاولة يائسة لسحب ابتسامة مني، فأهرب منها ومن العالم، أين سأهرب من شهداء سيزر؟ أنا المواطنة السورية التي تعيش الإحساس بالذنب في كل لحظة لأنها لا تزال على قيد الحياة، وتعيش الإحساس بالخوف كلما نشروا صورة جديدة تحمل على الجبين رقماً لعيناً لا أفهمه. أنا المواطنة السورية التي يوقظها قلبها، تهرول إلى الأخبار، تنتظر من أختها أن ترد على الهاتف من دمشق، تغمرها السعادة أن أختها لا تزال على قيد الحياة، وتكره سعادتها لأن ثمة أختاً أخرى لسورية أخرى ماتت اليوم. أنا المواطنة السورية التي جاء العالم بأسره ليحارب «داعش» على أرضها، وبقي الأسد على عرشه وعلى رقاب أهلها، أستمع إلى تصريحات أميركا وأوروبا والعالم بأسره، فيتملكني الغضب «إنهم لا يعترفون بالأسد، ولكنهم لا يحاربونه»، وبدل أن يحتضنني ذلك العالم «المتعاطف معي إعلامياً» لأنني الضحية الأولى للنظام والضحية الأولى ل «داعش»، قرر أن ينبذني ويعاقبني على موتي مرة أخرى. أنا المواطنة السورية، لست «داعشية»، ولست أسدية، قتلني النظام وشردني، وذبحني «داعش» ويتّمني، وهربت من الاثنين، فابتلعني البحر مرة وخنقتني الخيمة، تعرفت إلى أخي وابني وزوجي وأبي في صور لبقايا إنسان، ورفضني الناس مرات ومرات.