ليس مفاجئاً أن يختار الشاعر سامر أبو هواش عنوان ديوانه الجديد «سيلفي أخيرة مع عالم يحتضر» (منشورات الجمل)، فالصورة كانت واحداً من هواجسه الشعرية، سواء كانت مجازية أم ذات معادلة فوتوغرافية أم شكلية أو «غاليغرامية» مرسومة بالأحرف والرموز وسع توبوغرافية الصفحة. وهو سعى في ديوانه السابق «سوف أقتلك أيها الموت» (دار الغاوون) إلى كتابة قصيدة بصرية عمادها الشكل المرسوم واللعب على فراغات الصفحة وجعل المادة مقروءة ومشاهدة في آن. لكنه في الديوان ذاك حافظ على شعرية النص المكتوب وكثافاته اللغوية، عطفاً على اللعبة البصرية التي بدت كأنها تحاور النص في صميمه. في ديوانه الجديد ينطلق الشاعر من إمكانات «النظرة» وأبعادها جاعلاً إياها بمثابة المرجع الذي من خلاله يرى العالم كما يشاء أن يراه، وحيداً به ووحيداً معه، لا سيما عبر صورة ال «سيلفي» التي تخفي في قلبها مفهوماً مرآوياً للمشهد. الشاعر هنا بصفته مصوراً، إنما هو الذي يصوِّر وهو الذي يُصوَّر ولكن من دون أن يقف وراء الكاميرا في المعنى المألوف. الكاميرا تحل قبالته وفيها يرى نفسه والعالم أو بالأحرى جزءاً من العالم. وإن عُرفت صورة ال «سيلفي» في كونها «أوتو - فوتو» أو «إيغو - فوتو» (إيغو - بورتريه) وفق علم النفس، فالشاعر شاءها أن تكون صورة مزدوجة تجمع بين الذات والعالم كما تراه عينه نفسها. إنهما الذات والعالم في مرآة الشاعر الذي يضفي على الصورة بُعداً نرجسياً جديداً. فهو الذي يصور نفسه محاطاً بما حوله، مجسداً أحد أجمل الأفعال النرجسية غير المتضخمة بتاتاً. فالعالم هنا هو عالم يحتضر، وصورة ال «سيلفي» هي كما يعبر العنوان، صورة أخيرة مع هذا العالم المحتضر ونظرة أخيرة إليه. وقد لا يليق بمثل هذا العالم سوى هذا النوع من الصور التي تضمر مقداراً من وداع شخصي، والتي تحتفي بهذا العالم القائم على حافة الانهيار احتفاء ذاتياً. وكم بدت استعارة فكرة «الأرض الخراب» في إحدى فقرات القصيدة - الديوان مصيبة، بخاصة أن الشاعر أضفى عليها طابعاً عبثياً وساخراً، سودواياً وجارحاً في سخريته كأن يقول: «في أرض الخراب الجديدة هذه/ نقيم الجنازات الجماعية/ في غرف الجلوس المكيفة...». فالعالم «المحتضر» ليس غريباً عن رمزية «الأرض الخراب» التي استوحاها إليوت من التراث الرثائي القديم، ليصور المأساة التي حلت غداة الحرب العالمية الأولى محدثة حالاً من الدمار والرعب واليأس. ولئن بدا إليوت ينتظر في قصيدته بصيص أمل ميتافيزيقي وعلامة خلاص روحي بعد الكارثة التي حلت، فالشاعر أبو هواش يجد في عيني طفلته الواسعتين بارقة رجاء يحملها معه لحظة خروجه إلى العالم، كما يعبر في ختام قصيدته. قد يُقرأ هذا الديوان بصفته قصيدة طويلة ذات مقطوعات متتالية يجمع بينها خيط من التخييل والنفس السردي والبناء الداخلي، أو بوصفها مجموعة قصائد قصيرة خالية من العناوين ومترابطة بعضاً ببعض. لكنها في كلتا الحالين تظل قصيدة المناخ الواحد واللغة الواحدة التي تتموج كماء البحر. تُرى ألم يقل إليوت أن القصيدة الطويلة ليست في خلاصتها سوى مجموعة قصائد قصيرة؟ أما لعبة البناء فمن مظاهر تنقل الشاعر بين ضمائر ثلاثة: المخاطب (أنت) والمتكلم المفرد (أنا) والمتكلم الجمع (نحن)، على أن الضمائر هذه التي تتبدل ليست إلا تنويعاً على ذات الشاعر المتشظية والمتوحدة في تشظيها: «يمكنك أن تصرخ وأن تصرخ/ كمئة ألف امرأة في مخاض...»، «أجرّ مع الآخرين عربات يدوية محمّلة بالرؤوس»، «إننا نموت/ نموت فحسب/ في الصور...». لا تخلو القصيدة من رؤيا كابوسية، سوداء حيناً وهاتكة حيناً، رؤيا تترواح بين الهلع والتدمير. لكن أبو هواش لا يؤدي دور المتنبئ أو الناهي كما كان يفعل الشعراء سابقاً، بل هو يجوب العالم المحتضر بعين شاعر ورسام ومصور وربما سارد، ناقلاً مشاهد الكارثة بمآسيها اليومية ومهازلها، الحقيقية والمجازية. يراها ويعيشها من بعد وقرب. حتى صورة ال «سيلفي» التي التقطها مع هذا العالم يظهر فيها «موتى شاحبون» يحتشدون مثل «نجوم الأوسكار». ويعترف الشاعر بأن الرعب لا يحل في الرأس فقط، بل يحصل على مرأى من العين (المتخيلة طبعاً): «بين يدي همبرغر المذبحة الضخم». هذه صورة رهيبة حقاً كأنها طالعة من عتمة «أناشيد مالدورور» أو كوابيس روايات الرعب الباروكية. وتقابل هذه المذبحة «مفرمة كونية» تولد أمام العينين، كما يعبر، أو «جزازات عشب متوضئة في مهمة مقدسة». قصيدة رهيبة هي أشبه برؤيا أبوكاليبسية طالعة من قلب جحيم العالم، العالم الراهن، عالم القتلة الجدد الذين «يحملون ألواح الأسلاف» و «الرؤوس المقطوعة» ويبتسمون للكاميرا، عالم «الأطفال القتلى» والأيدي التي يحملها «ساعي الدم» والجثث التي يرشح بها سقف «غرفة ليلية»... لا يتخطى ديوان سامر أبو هواش السبعين صفحة، لكنه ديوان أشبه ب «ملحمة» مختصرة، تنصهر فيها مشاهد عالمنا المحتضر بصور شديدة القسوة والفرادة في آن، بمجازات وتشابيه تتفاوت بين التجريدي والحسي. والأهم أن الشعر يبلغ ذروته في هذه المشهدية ليس كشاهد فقط، بل عبر انحيازه إلى لغة القتيل أو الضحية وتضمخه بحمرة الدم «كل هذا الدم»...