قضيت في مستهل حياتي الديبلوماسية سنواتٍ عدة في دولة الهند، تعلمت فيها الكثير وعرفت من تاريخها وعجائبها ما يؤكد ما ذكره المفكر العربي البيروني، واقتنعت بأن أوصافه لهذا الشعب الكبير وتلك الأمة العظيمة هي أقرب ما تكون إلى الحقيقة، على رغم بُعد الزمان وتوالي القرون. فالهند متحف الزمان والمكان ترى فيها الغنى الفاحش والفقر المدقع متجاورين، وتشهد التقدم الكاسح والتخلف الواضح متعايشين! ولا عجب، فهي بلد الديانات المختلفة والطوائف المتعددة والأعراق المتباينة واللغات المتباعدة. ومع ذلك ظلت الهند دولة مركزية قوية على رغم كل ذلك التنوع والاختلاف، وإذا حاولنا أن نتعرف إلى طبيعة العلاقات بين جمهورية الهند والعالم العربي، فإننا سنتأرجح بين التاريخ والجغرافيا، بين الماضي والحاضر، حتى نستكشف ملامح تلك العلاقة المعقدة وثوابتها الباقية. وإذا كنا كتبنا من قبل عن العلاقات بين العرب وكل من دولتي الصين الشعبية وروسيا الاتحادية، فإن من الطبيعي أن نتبع ذلك بمقالنا هذه المرة عن الهند، تلك الدولة التي تشبه القارة، صاحبة التأثير الكبير في سياسات جنوب آسيا بل وشرقها وغربها أيضاً، لتتجاوز ذلك لتكون لاعباً رئيساً في العلاقات الدولية المعاصرة. وسنطرح رؤيتنا للعلاقات العربية - الهندية من خلال المحاور الآتية: أولاً: يعتبر الإسلام - من وجهة نظري - عاملاً مؤثراً في العلاقات العربية - الهندية، خصوصاً إذا دخلت باكستان طرفاً ثالثاً في تأطير تلك العلاقة وتكييف مسارها. وللهنود مشكلة تاريخية مع الإسلام، فعلى رغم أن عُشر سكان الهند هم من المسلمين الذين يتجاوز عددهم المئة مليون، إلا أن الذاكرة الهندية لا تنسى أن الاحتلال المغولي المسلم هو الذي غيَّر خريطة الدولة وانتهى بها إلى التقسيم غداة الاستقلال وجلاء الاحتلال البريطاني. فالهنود يتذكرون بمرارة أن التراث الثقافي الإسلامي في بلادهم أقوى بكثير وأكبر شهرة من التراث الهندوكي، والناس يعرفون الهند من خلال تحفة «تاج محل» المعمارية ومدينة جيبور التاريخية والمراكز العلمية والإسلامية في حيدر أباد وأحمد أباد وغيرهما، كما أن أجمل بقاع الهند يقع في منطقة كشمير وهي ذات غالبية سكانية مسلمة. ثانياً: حاول الهنود في العقود الأخيرة أن يحلوا عقدة الخلاف الديني بالدولة العلمانية تارة، وبالاقتراب من العالم الإسلامي تارة أخرى، حتى تقدموا يطلبون عضوية مؤتمر منظمة العالم الإسلامي. ولكننا - ربما مجاملة لباكستان - لم نتحمس للمطلب الهندي وآثرنا إبعادها منا أكثر وأكثر لكي تقترب هي على الجانب الآخر من إسرائيل أكثر وأكثر! ومشكلة العرب هي أن دولاً عربية كثيرة حددت علاقاتها مع الهند في ضوء العلاقات العربية - الباكستانية. وتلك خطيئة كبرى عندما نقوم بتحديد علاقاتنا مع طرفٍ دولي معين من خلال العلاقات مع طرفٍ ثالث. ثالثًاً: لقد قام الهنود بعملية انتقال سياسي ديبلوماسي بارع، فعندما كنت أعيش في نيودلهي في سبعينات القرن الماضي كان حليفهم الأول هو الاتحاد السوفياتي السابق بحكم حساسية علاقات البلدين تجاه الجار المشترك الصين، وكان الهنود وقتها داعمين بشدة للقضية الفلسطينية، رافضين أي تعامل مع الدولة العبرية، حتى أنني أتذكر أنني كتبت مقالاً في مجلة «السياسة الدولية» القاهرية أثناء عملي في الهند قلت فيه إنني أشتمُّ رائحة غزلٍ مستتر بين الهند وإسرائيل، حيث كنت رصدت زيارة لرئيسة الوزراء آنذاك أنديرا غاندي للجالية اليهودية في مومباي، وقرأت ما جرى يومها على أنه تمهيدٌ لتحول سياسي منتظر. وذهب بعدها مباشرةً السفير الهندي في القاهرة محتجاً لدى وزارة الخارجية المصرية ومندهشاً، أو متظاهراً بالدهشة: كيف تتصورون في مصر أو في أي بلد عربي أن الهند يمكن أن تقيم يوماً ما علاقاتٍ ديبلوماسية كاملة مع إسرائيل؟ ولكن المياه جرت بعد ذلك مجراها وأثبتت الأمور أن ما توقعناه كان صحيحاً، فالهنود مثل بقية الشعوب الواعية يدركون أن السياسة هي مصالح دائمة وليست، أبداً، عواطف زائلة. رابعاً: عندما قام الرئيس السادات بمبادرته الشهيرة تجاه اسرائيل جمّد الهنود علاقاتهم تقريباً مع مصر تعاطفاً مع العالم العربي الذي كان رافضاً خطوة السادات وصدمتها العنيفة حينذاك، خصوصاً أن إرث العلاقات بين عبدالناصر ونهرو كان قد انقضى، وكانت الكيمياء السياسية بين السيدة أنديرا غاندي والرئيس المصري الراحل أنور السادات في أسوأ أوضاعها. كما كان الهنود حريصين على مصالحهم مع الدول العربية الأخرى، خصوصاً ما يتصل منها بالوجود الهندي في دول الخليج وجالياتهم العاملة في تلك الدول. خامساً: ذهبت إلى الهند بعد أكثر من عشرين عاماً من رحيلي عنها، وطلب أحد المسؤولين الهنود الكبار لقائي، وكانت صدمتي كبيرة عندما تحدث معي صراحةً عن العلاقات المتنامية بين الهند وإسرائيل، خصوصاًً في المجالين العسكري والنووي، فقلت له: «سبحان مغيّر الأحوال. لقد كان الدكتور كلوفيس مقصود مدير مكتب جامعة الدول العربية يقابل رئيسة وزراء الهند الراحلة فور أن يطلب ذلك نتيجة حماسة بلادكم للقضية الفلسطينية، وكان علم منظمة التحرير يتقدم الأعلام العربية في سماء العاصمة الهندية، وأدركت يومها حجم مسؤوليتنا العربية عن ذلك التحول عندما لم نر في جنوب آسيا إلا باكستان وتجاهلنا الهند في غير مناسبة سياسية». سادساً: إن الهنود قوم عمليون بالطبيعة، يجيدون عملية توظيف المصالح ويدركون أن الولاياتالمتحدة الأميركية هي اللاعب الرئيس في العلاقات الدولية المعاصرة، وقد صاحب تحولهم الإيجابي تجاهها انهيار الاتحاد السوفياتي، كما أفادوا كثيراً من تراجع قوة التحالف الأميركي - الباكستاني في السنوات الأخيرة، خصوصاً بعد 11 أيلول (سبتمبر) 2001. ويهمني هنا أن أشير إلى أن تنامي ظاهرة «الإسلام السياسي» خدم الديبلوماسية الهندية كثيراً في السنوات الأخيرة، فأصبحت تلك الدولة الذكية تحصد نتاج أخطائنا وتستفيد من عيوبنا ولا تفوّت الفرصة أحياناً لمسايرة أعدائنا. إنني أعتقد مخلصاًَ أننا كعرب قد أخطأنا كثيراً في علاقاتنا بالدولة الهندية، وظننا أن دعمهم لقضايانا سيستمر دائماً مهما تغيرت مواقفنا أو تبدلت أحوالنا. سابعاً: إن قراءتي لما يجري في جنوب آسيا وغربها من الناحيتين الاستراتيجية والسياسية تؤكد أن الهند ستكون لاعباً مهماً وحليفاً قوياً للولايات المتحدة في المحيط الهندي والخليج العربي، ناهيك عن الدور المتزايد لهذين البلدين في كل من باكستان وأفغانستان وإيران. إن الهند التي عانت مما يطلقون عليه «ظاهرة العنف الإسلامي» والتطرف الديني الذي تجسده حركة «القاعدة» هي ذاتها الهند التي ستضع إمكاناتها تحت تصرف المسيرة الغربية بقيادة الولاياتالمتحدة الأميركية لمواجهة ما يسمونه «الإرهاب»، وهم بذلك يضربون عصافير عدة بحجر واحد، فهم يخيفون الصين ويضعفون باكستان ويمدون نفوذهم تجاه منطقة الخليج بثرائها واحتياط النفط فيها. ألم أقل دائماً إن الهنود ساسةٌ بارعون واقتصاديون متميزون! هذه قراءتنا على نحوٍ موجز للعلاقات بين الهند والعرب، فيها الكثير من أخطائنا والكثير من أطماعنا، وأنا ألفت النظر إلى ضرورة دعم علاقاتنا بالهند وتعزيز التبادل التجاري معها وتوثيق شبكة المصالح بيننا وبينها، خصوصاً أن الهند قطعت أشواطاً كبيرة على طريق التقدم في عالم اليوم، فهي مكتفية ذاتياً من الحبوب الغذائية، وهي دولة نووية، ولها أبحاث متقدمة في عالم الفضاء وهي واحدة من الدول العشر الصناعية الكبرى، كما أنها تملك أكبر رصيد من الثروة البشرية، فعلماؤها منتشرون في أنحاء العالم وكوادرها الفنية تتقدم العالم النامي كله، كذلك فإن لديها الملايين من الأيدي العاملة المدربة، وفوق هذا وقبله هي أكبر ديموقراطية في كوكبنا، ويكفي أن نتأمل مشهد 700 مليون ناخب يتجهون إلى صناديق الاقتراع على امتداد ثلاثة شهور يدلون بأصواتهم في شفافية وانتظام لا نظير لهما. إن الهند دولة كبرى لها سياساتٌ مستقرة تمضي وفقاً لرؤية واضحة حققت حتى الآن نجاحاتٍ باهرة، لذلك يجب ألا نتركها لكي تنفرد بها إسرائيل ولا حتى الولاياتالمتحدة الأميركية. والذين يزعجهم الاقتراب العربي - الهندي من منظور باكستاني، عليهم أن يدركوا أن عدد المسلمين في الهند لا يقل كثيراً عن عددهم في باكستان. إننا أمام معادلة إقليمية ودولية تحتاج من جامعة الدول العربية والعواصم العربية المختلفة إلى رؤية أعمق للعلاقات مع الهند، دولة الثقافات المتعددة والحضارات المتعاقبة والدور البارز في العلاقات الدولية المعاصرة. * كاتب مصري