الأرض والمباني ذاتها، والجو العام المفعم بالحماسة ومتعة البحث والتحليل ذاتهما، حتى مزرعة حشراتها وحيواناتها ما زالت تقف شاهدة على عصر ولّى، فأفل بعضه، وما زال البعض الآخر ينتظر: إما التحديث والارتقاء واما بقاء الحال على ما هي عليه، ثم الاندثار. إنها «الهيئة القابضة للمصل واللقاح» («فاكسيرا»)، وهي صرح علمي للبحوث والإبتكار، لا يعيق عملها سوى «مرض» مزمن يتمثّل في هزال منظومة دعم البحث العملي وتشجيعه. تربض الهيئة في موقعها الاستراتيجي عند مدخل «حي المهندسين» في القاهرة النابض بكل أشكال وألوان الحياة والجنسيات والسيارات والعوادم، علماً أنها كانت وقت تشييد مقر الهيئة، تنعم بالهدوء والخضرة والسلام. ولت هذه الأشياء جميعها، ولا يتوقع أن تعود مجدداً. مرّ ما يزيد على قرن على إنشاء الهيئة التي تعد من الأقدم في إنتاج اللقاحات، في أفريقيا والمنطقة العربية. ولم يتجاوز الفارق الزمني 11 عاماً بين اكتشاف أول فيروس خنازير عام 1918 وبين افتتاح الهيئة. وبعد تسعين عاماً، توجّب على الهيئة أن تواجه الموجة الراهنة من أنفلونزا الخنازير التي يسبّبها فيروس «أتش1 أن1» H1N1. نيات اللقاح ووقائعه رافق ضجة كبيرة ذلك الخبر الصغير الذي ظهر أخيراً، معلناً نية مصر إنتاج لقاح لفيروس «أتش1 أن1». والمعلوم ان «أنفلونزا الخنازير» يرافقها كثير من الرعب، وتشكيك في فعالية اللقاح. ولذا، طرح البعض سؤالاً عن عزم مصر إنتاج اللقاح. وسألت «الحياة» الدكتور محمد ربيع، رئيس «فاكسيرا» عن حقيقة ما يحدث. «نعم. نحن بصدد إنجاز الإجراءات الخاصة بعمل خط لإنتاج اللقاح في مصر. ويجري إنشاء مصنع في «مدينة 6 أكتوبر» المتاخمة للقاهرة. ويبدأ الإنتاج قريباً». ومن غير المتوقع أن يبدأ قبل عامين كاملين، يلزمان لعملية الاستعداد. ويشاد المصنع على مساحة 2250 متراً مربعاً. ومن المقرر أن يأتي على أحدث طراز، وأن يعتمد أحدث التقنيات العلمية في إنتاج المصل. بعد انتهاء العمل في المصنع الجديد، نصبح قادرين على إنتاج لقاحات لأنواع الإنفلونزا، سواء الموسمية العادية أو الخنازير». تشيد هذا المصنع الجديد القوات المسلحة المصرية، التي تشتهر بالسرعة في الإنشاء والإنجاز، بالتعاون مع «منظمة الصحة العالمية» وبعض المنظمات الأوروبية. يشار إلى أن وزير الصحة المصري الدكتور حاتم الجبلي كان صرح قبل أيام أن مصر ستنتج أول دفعة من لقاحات أنفلونزا الخنازير في نيسان (ابريل) العام 2011، وتتضمن نحو ستة آلاف عبوة. ويتوقع أن يستمر خط الإنتاج لتلبية الطلب المحلي والإقليمي كذلك. لا تتعدى موازنة هذا الصرح العملاق 550 مليون جنيه مصري سنوياً (مئة مليون دولار)، وهو مبلغ هزيل باعتراف ربيع. ويرجع ذلك لكون «فاكسيرا» تورد لوزارة الصحة حصراً، وهي الجهة الحكومية المسؤولة عن توفير اللقاحات للمواليد الجدد مجانياً، ما يعني إنتاج قرابة مليوني لقاح. وبابتسامة قال ربيع: «ربما الحال الوحيدة التي يمكننا فيها تحقيق ربح هي أن يصل عدد المواليد إلى أربعة ملايين مولود سنوياً، حينئذ سنتمكن من بيع جزء من هذه اللقاحات، ولكن هذه الزيادة ستكون لها آثار كارثية أخرى نحن في غنى عنها». والمعلوم أن مصادر الربح تكون إما من خلال التعامل مع القطاع الخاص وهذا غير وراد نظراً الى أن وزارة الصحة تأخذ على عاتقها توفير اللقاحات اللازمة بالمجان، أو من تصدير اللقاح، وهو ما يجري بمعدل ضئيل، عِبر التعامل مع الدول الإفريقية. وأوضح ربيع وجود نوعين أساسيين من اللقاحات. يجري التلقيح بالنوع الأول إجبارياً، كحال الدرن، وشلل الأطفال والثلاثي والكبدي الوبائي والحصبة والحصبة الألمانية والغدة. «كلنا خضعنا لهذه التطعيمات مجانياً، وهناك تطعيمات أخرى تقي من أمراض مثل الالتهاب الكبدي الوبائي «أ»، وال «روتا فيروس» (الذي يسبب الإسهال عند الصغار)، وفيروس «بابيلوما» الذي يصيب عنق الرحم عند السيدات، وغيرها». وأشار ربيع إلى أنه لا يوجد في مصر أي شركة إنتاج معتمدة دولياً. وقال: «تحصل الشركات عادة على شهادة ال «إيزو» وهي لا تساوي شهادة الاعتماد التي تعني وصول الإنتاج الى مستوى دولي، لأن الاعتماد يتعلق بمرجعيات مثل «منظمة الصحة العالمية» و «الهيئة الأميركية لمراقبة الأغذية والأدوية» و «وكالة الأدوية الأوروبية»... المشكلة أن المصانع لدينا قديمة وغير متطورة. وتطلب جهات التفتيش التي تأتي من أجل إعطاء الاعتماد، أن ترى بنفسها التطوير والكوادر المدرّبة والجودة وكل العوامل الأخرى التي تؤهل المصنع أو الشركة للحصول على الاعتماد الدولي». الخروج من القاهرة في السياق عينه، أشار ربيع الى أن الحل يكمن في الخروج من مبنى الهيئة في «حي المهندسين» والنزوح إلى «مدينة 6 أكتوبر». «هذه النقلة تساعدنا على أن نبدأ منذ اللبنة الأولى، بأحدث المعدات والتقنيات المعمول بها دولياً. من جهة أخرى، ستتيح لنا هذه النقلة الاستفادة من ثمن الأرض في «حي المهندسين» حيث يصل سعر المتر المربع إلى 40 ألف جنيه. ما الذي يدعوني إلى الوقوف على أرض ببليوني جنيه في الوقت الذي يمكنني فيه أن أنتقل إلى أرض ب20 مليون جنيه، مع الاستفادة بهذا الفارق في تطوير المصانع؟ الميزة الأخرى هي أنني سأبتعد بمعاملي ومكوناتي البيولوجية الخطرة عن هذا التجمع السكني المزدحم إلى مكان واسع وغير متخم بالسكان، وهذا يتوافق والمعايير البيئية السليمة... أتوقع أن تجري عملية النقل في غضون أربعة أعوام». الغريب انه لا توجد تقريباً أية علاقات بين «هيئة المصل واللقاح» وشركات الدواء، ربما باستثناء المنافسة بينها وبين بعض شركات إنتاج الأنسولين. ورأى ربيع بعض الفائدة في التعاون «المالي» مع هذه الشركات، مثل التعاون المزمع في مجال إنتاج الإبر الآمنة التي ستنتج في مصانع «6 أكتوبر». وأضاف: «إذا كان السؤال يتعلق بمراكز البحث التي يقال أن شركات الأدوية تقوّمها ضمن نشاطها، فهذا لا يحدث في بلادنا... تلك الأمور تجري في أميركا واليابان وأوروبا». يتمثّل أحد أبرز نشاطات الهيئة المتفردة بمجال إنتاج الأمصال، فهي توفر مصلي العقرب والثعبان، إضافة إلى مصل الكلب والغرغرينا. وقال ربيع: «عملية إنتاج المصل صعبة للغاية. إذ نربي الثعابين، ونفتح افواهها لنستخرج منها السم، ثم نحقنه في حصان. ثم يبدأ الحصان في تكوين الأجسام المضادة، ونبدأ العمل على البلازما لاستخراج مصل يتمتع بالتركيز المناسب كي يحقن الإنسان به من دون أن يسبب له مشاكل. العملية معقدة جداً، و «فيكسترا» هي الوحيدة التي تنتج هذه الأمصال في مصر». ولدى الهيئة مزرعة ضخمة في حلوان تربى فيها الثعابين والعقارب والخيول وبعض المواشي، والفئران. وعلى سبيل المقارنة، لوحظ خفوت مفاجئ في الأحاديث الإعلامية عن قرب إنتاج لقاح لأنفلونزا الطيور، بعد أن هلل الجميع قبل أسابيع لإعلان «المركز القومي للبحوث» أنه توصل لإنتاج لقاح مقاوم لانفلونزا الطيور للاستخدام البيطري بدلاً من اللقاح الذي تستورده مصر. وقيل أن نتائج اللقاح المستورد لم تكن جيّدة. ونجح خبراء المركز في عزل فيروس «أنفلونزا الطيور». وسافروا به إلى الولاياتالمتحدة حيث تم عمل اللمسات النهائية عليه قبل تحضير اللقاح. ثم عادوا إلى «المركز القومي للبحوث» على أساس أن يبدأ تحضير اللقاح نفسه. وفي عام 2009 أعلن المركز عن إنتاج كمية صغيرة من اللقاح. وكان المقرر أن تتسلمه «هيئة المصل واللقاح»، كي تبدأ عملية الانتاج الموسّع، الذي قد يصل الى صنع 400 أو 500 مليون جرعة، لا سيما أن مصر تستهلك بليون جرعة تطعيم لأنفلونزا الطيور سنوياً، إذ يتلقى كل طائر ثلاث جرعات. وصيغت مذكرة تفاهم بين الهيئة والمركز لبدء تلك العملية. وتوجّب أيضاً أن يخضع اللقاح الجديد للتقويم من وزارة الزراعة، التي لم تصدر نتيجة تقويمها لحد الآن. وقال ربيع أنه نمي إلى مسامعه أن فعالية اللقاح تتراوح بين 20 و40 في المئة. وراهناً، تنتظر الهيئة ما ستسفر عنه الأيام المقبلة من تطور للوضع الوبائي الخاص بأنفلونزا الخنازير، إضافة الى احتمال تحوّر فيروس انفلونزا الطيور، وسعي «فاكسيرا» للهروب من الازدحام والاختناق في موقعها الحالي في قلب «حي المهندسين»، والمخاوف على مصير المبنى التاريخي ومساحة الأرض الشاسعة المقام عليها. وفي هذه الأثناء، يجري العمل في مصانع «فيكسترا» الجديدة في «6 أكتوبر»، ويحدوها الأمل بأن الحصول على اعتماد دولي، مع التوسّع في الانتاج محلياً، ربما أديا الى تغيير تاريخي في مشهد اللقاح في مصر.