يختلف الرئيسان الأميركي والإيراني على كثير من الأشياء لكنهما يتفقان على أن عالم اليوم يختلف عن عالم الأمس، وأن هناك أشياء كثيرة آخذة في التغيّر ويدعي كلاهما المساهمة في هذا التغيير. فمن على منبر الأممالمتحدة أكد أوباما أن الولاياتالمتحدة لا تستطيع التفرد في إيجاد الحلول للقضايا الدولية. وفي المقابل استندت وثيقة المقترحات الإيرانية إلى أن «العصر الذي اتسم بسيطرة الإمبراطوريات انتهى». لم تتطرق الحوارات التي أجريت في جنيف وفيينا إلى رزمة الشروط الإيرانية بقدر ما بحثت في آليات الاقتراح الإيراني بالتخصيب خارج إيران. ويمكن إيجاز النتائج السياسية لهذه الحوارات بأنها أشارت إلى استعداد إيران للتنازل في الملف النووي مقابل استدراج الحوار المباشر مع الولاياتالمتحدة ومحاولة التفاهم معها على دور ايران ومكانتها الإقليمية والدولية. طبعاً لا يزال من المبكر الحديث عن تسوية الملف النووي في شكل نهائي بخاصة أن إيران لا تعتمد الشفافية، إضافة إلى أن الإمساك بهذا الملف يخضع لتوازنات مراكز القوى داخل النظام وتتجاذبه عوامل عديدة تعكس في كل مرة تبايناً وارتباكاً قد يكون مطلوباً في بعض الأحيان لإظهار عدم خضوع طهران للشروط الغربية، ثم لأن إبقاء جانب نووي خفي قد يفيد في إخافة القوى الإقليمية والغربية معاً. لكن هل سيبدأ الحوار حول الدور الإقليمي قبل انتهاء البحث في الملف النووي والتوصل إلى حل نهائي؟ فتح استئناف الحوار مع طهران الباب أمام الغرب لتغليب الخيارات الديبلوماسية واستبعاد الخيار العسكري الذي تتجنبه إيران على رغم أنها تظهر استعدادها له. وشكل فسحة ظهر من خلالها حجم النفوذ الإيراني وانفلاشه على مناطق متعددة من العالم. لكن بالتزامن مع ذلك ظهرت المشكلة الداخلية في إيران وكأنها بند يطرأ على الأجندة الدولية التي تذهب في اتجاه فرملة الحوار انطلاقاً من استضعاف الموقف الإيراني والمراهنة على مزيد من نمو الحالة الإصلاحية. لا شك في أن تقديم إيران رزمة الشروط الإقليمية أظهرها وكأنها تمسك بزمام الحلول وتنتظر الثمن المناسب من الإدارة الأميركية، فيما كانت قد بنت نفوذها على قاعدة هزيمة الخيار الأميركي وبناء الشرق الأوسط الإسلامي وليس تقاسم النفوذ مع الولاياتالمتحدة. تتقن إيران لعبة «البدائل» ونقل حروبها إلى الخارج، لكن هذه المرة أصبحت هي ذاتها ساحة للصراع الإقليمي والدولي مثلها في ذلك مثل العراق وفلسطين ولبنان ولم تعد لاعباً طليق اليدين يستقوي بانكشاف القوات الأميركية في العراق أو بالإجماع الوطني على سياسات الرئيس أحمدي نجاد أو حتى بتأييد كل ما يقوله مرشد الثورة، وبات وضعها اليوم أشبه بوضع الاتحاد السوفياتي قبل سقوطه، حيث طغت العسكريتاريا على الحياة العامة وأصابت البيروقراطية الطبقة الحاكمة وظهر الصراع الداخلي إلى العلن وأخذ الشباب موقفاً سياسياً مواجِهاً للنظام وانقسم «الإكليروس» على نفسه، وزاد انفلاش إيران الخارجي من ظهور نزعة كيانية إيرانية تدفع باتجاه الحفاظ على الثروة وإلغاء المجهود الحربي لتصديرها الذي يستنزف قدرات إيران الاقتصادية ويحرم الإيرانيين من الاستفادة من عائدات الموارد النفطية. لقد أظهرت التطورات الأخيرة عجز إيران عن لعب الأدوار التقليدية التي اتقنتها في الماضي، فالمعطي الثنائي الذي أكسبها قوة الدفع والقائم على صلابة الموقف الداخلي من جهة وانقسام الموقف الخارجي حول طريقة التعاطي معها من جهة ثانية انقلب إلى عكسه تماماً، وباتت المعادلة الجديدة تُختصر بغياب الإجماع وضعف شرعية النظام على المستوى الداخلي وتبلور موقف دولي موحد حول ضرورة الحزم مع إيران ومنعها من امتلاك القدرة النووية وذلك مع جاهزية دولية في الذهاب إلى عقوبات اقتصادية أوسع وأقوى. ساهم في كل ذلك الخلل الذي أصاب إيران لناحية تعاطيها مع القضايا الخارجية وانعكاس ذلك على التوازنات القائمة في العلاقات الدولية. ففي أقل من شهر تعرضت إيران لعدد من الانتقادات العلنية الروسية وظهر وكأن الروس يستغلون أي فرصة تبرر لهم انتقاد ايران، فقد انتقدت روسيا خطاب الرئيس الإيراني عن المحرقة اليهودية. وعلى أثر الإعلان عن المحطة الثانية لتخصيب اليورانيوم اعتبر الرئيس الروسي أن إيران لا تساعد المجتمع الدولي في الموضوع النووي وأنها تنتهك قرارات مجلس الأمن. ثم أن روسيا لم تظهر ثقتها بالنظام الإيراني وماطلت في إنهاء محطة بوشهر وأوقفت تزويد إيران بالصواريخ الحديثة المضادة للطائرات وأخضعت كل ذلك لمدى التزام إيران بالتعاون مع المجتمع الدولي. من الواضح أن وجهة تمنيات إيران هي البحث عن ثمن التنازل في الملف النووي وتسييل نفوذها في المنطقة إلى حقوق وامتيازات ومكاسب سياسية، أما إذا حان الوقت لصفقة كهذه فذلك يعتمد على المُستجد داخل إيران التي تنامى فيها الرهان على الديموقراطية وأصبح ذلك معياراً يقاس على أساسه توقيت الحوار. في النهاية صحيح أن عالم اليوم لا تحكمه الإمبراطوريات بحسب ما جاء في الورقة الإيرانية امام الاممالمتحدة، لكن الصحيح أيضاً أنه لا يتسع لإمبراطوريات صاعدة وطموحة بالحجم الذي تحدده إيران لحركتها في المنطقة والذي حوّل كل دولة من دولها بنداً في رزمة الشروط الإيرانية للحوار مع الغرب. * كاتب لبناني