في تقرير مشترك صدر أخيراً عن منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (فاو) وبرنامج الأغذية العالمي (واي أف بي)، تحت عنوان «حالة انعدام الأمن الغذائي في العالم 2009»، وردت أرقام مذهلة عن عدد السكان الذين ينقصهم الغذاء في العالم، حيث تصل الأعداد في آسيا والمحيط الهادئ حوالى 642 مليون شخص من الذين يعانون من الجوع المزمن، وفي أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى حوالى 265 مليوناً من الجياع، وفي أميركا اللاتينية والكاريبي 53 مليوناً، وفي الشرق الأدنى وشمال أفريقيا (أي العالم العربي) حوالى 42 مليوناً جائعاً. ترافق هذا التقرير مع بدء اجتماع المسؤولين الكبار في القطاعات الزراعية للدول العربية في الجامعة العربية، لتنسيق المواقف في شأن التحضيرات العربية لمؤتمر القمة العالمي عن الأمن الغذائي المقرر عقده في روما ما بين 16-18 تشرين الثاني (نوفمبر)، وهي القمة التي تستهدف الوصول إلى اتفاق عالمي للقضاء النهائي على الجوع بحلول العام 2025، في وقت أشار المدير العام للمنظمة العربية للتنمية الزراعية إلى إمكان تجاوز الفجوة الغذائية العربية 70 بليون دولار عام 2030 وفق تقديرات «البرنامج الطارئ للأمن الغذائي». تصفع الأرقام العالمية عن المجاعة والحجم الذي يعاني منه السكان الضمير الإنساني، وتطرح أسئلة عن الأسباب الداخلية لهذا الوضع وعن مسؤولية المجتمع الدولي عن حال هذه البلدان، خصوصاً أن تأمين العيش الكريم كان ولا يزال يشكل أحد البنود الرئيسة لحقوق الإنسان والمواطن. أما الأرقام التي تشير الى حجم الجياع في العالم العربي والمقدرة ب42 مليون مواطن، فإنها تطرح أسئلة مشروعة عن الثروات العربية والهدر الذي تتسبب به السلطات المؤتمنة على هذه الثروات، كما تطرح أسئلة عن علاقة هذا الوضع بتطور المجتمعات العربية وتقدمها في كل الميادين، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتنموية الشاملة، كما تسلط الضوء على حجم المعضلات البنيوية التي تضرب المجتمعات العربية، وتجعلها مسمّرة في الفوضى والتطرف والإقامة المستمرة في التخلف. لم تتوقف التقارير الصادرة عن مؤسسات الأممالمتحدة، خصوصاً منها تقارير التنمية البشرية والإنسانية، وكذلك التقارير الدورية التي تصدرها مؤسسات الجامعة العربية، عن الإشارة الى حجم الفقر والبطالة والأمية في العالم العربي، حيث تسجل هذه المعضلات أرقاماً كبيرة عن ميادين التخلف العربي، ومنها تسجيل أن أكثر من ثلثي سكان العالم العربي يعيشون تحت مستوى الفقر. الجديد في التقارير المشار اليها هو تعيين أرقام عن الجياع في المجتمعانت العربية، وهي ارقام تقع تحت مستوى أعمق مما هو متداول في شأن تحديد المقصود بالفقر، ما يضع العالم العربي في أسفل الدرك الاجتماعي قياساً على مستويات التنمية المعروفة عالمياً. لكن الأمر الذي تتجاهله التقارير الدولية والعربية في الآن نفسه، هو الإشارة الى النتائج المتعددة الجوانب لأرقام الجياع بما هي حالات أشبه ما تكون بألغام قابلة للتفجر في كل ساعة وفي كل مكان. يتسبب هذا الحجم من الفقراء والجياع في إعاقة المشاريع التنموية الهادفة الى الارتفاع بمستوى حاجات السكان، بالنظر الى الجهل المرافق للأوضاع الاقتصادية وصعوبة استيعاب معنى المشاريع المطروحة في إطار تنموي. تشير تقارير صادرة عن مؤسسات دولية وعربية الى الإعاقات التي وقفت أمام مشاريع في بلاد مثل اليمن والشمال الأفريقي من قبل سكان محليين. ويتسبب الجوع والفقر في إعاقة مشاريع الإصلاح السياسي، خصوصاً منها القضايا المتعلقة ببناء الديموقراطية. يصعب ان تنبت الديموقراطية وتزدهر في أرض يهيمن فيها الفقر، بل على العكس من ذلك، فهذه الأرض المفقرة والجائعة تشكل جيشاً من الاحتياط للدول المستبدة وللديماغوجيا الشعبوية، بما يؤمن للحاكم تجييش الملايين وراء شعارات خادعة ومضللة. لكن الأسوأ من كل ذلك يتصل بتحول الفقراء والجياع إلى خزان بشري تغرف منه الحركات الإرهابية المتطرفة في العالم العربي. يترافق الفقر والجوع مع الإحباط واليأس والتمرد، وهي عناصر اجتماعية وسيكولوجية تساعد على تهيئة هذا الجائع لتلقي شعارات تحمل من الأوهام والأضاليل ما لا يستطيع مجابهتها. في عالم عربي يسجل فيه التخلف مستوى قياسياً، وفي أعقاب انهيار مشاريع التحديث والتنمية التي سبق لأنظمة الاستقلال أن وعدت بها شعوبها، ولم يكن لها ان تتحقق، بل على العكس حصدت المجتمعات العربية الخيبات من الممارسات السلطوية هذه، في مثل هذه الأحوال تقدمت الحركات الأصولية والمتطرفة لتقدم برنامجاً للشعوب ترى فيه خلاصها، مستخدمة الجانب الديني لتقديم برنامجها البديل عن البرنامج القومي أو الاشتراكي الذي لم يتسبب سوى في قهر هذه الشعوب العربية. ليس غريباً، في ظل فقدان الأمل بالخروج من النفق، أن تنجح الحركات المتطرفة في اجتذاب هذا الحشد الواسع من الفقراء والجائعين وتوظفهم في خدمة مشروعها السياسي، وتجعل منهم وقوداً لإرهابها وعنفها. من المفجع أن يصل العالم العربي الى هذا المستوى من التقهقر والتراجع، خصوصاً في المستوى الاقتصادي، بل ما يزيد في الإحباط أن نقرأ ان أكثر من 2500 بليون دولار كانت خسائر الدول العربية، الرسمية منها والمؤسسات المالية الخاصة، وهي مبالغ خسرتها المجتمعات العربية، عملياً، خلال الأزمة المالية التي ضربت العالم الرأسمالي في الأشهر الماضية. إن ربع هذه المبالغ يكفي وحده لإخراج العالم العربي من تخلفه عبر تنفيذ مشاريع تنموية في أقطاره، وهو مبلغ كفيل بسد حاجات الشعوب العربية والحد من مستوى الفقر، ناهيك بالقضاء على الجوع. إنه الهدر المتمادي للثروات العربية، ومنع توظيفها في خدمة شعوب المجتمعات العربية صاحبة الحق في هذه الثروات.