بعد كل مجزرة في العراق يقف رئيس الوزراء نوري المالكي على الأطلال، موجهاً التهم إلى «البعثيين وبقايا النظام السابق والقاعدة ودول الجوار». وبعد كل مجزرة، طائفية كانت أو غير طائفية، ينصرف العراقيون، بأطيافهم، إلى دفن قتلاهم في طقوس عاشورائية، يحضر فيها الواقع ويغيب الرمز. ويكتفي الجميع بهذه الطقوس، فرحين ب «ديموقراطية» أتيحت لهم ممارستها، بعد طول غياب. هذا المشهد المتكرر والتهم الجاهزة، وتورط الجهات المشار إليها، باعترافها أحياناً، لا يمنع من طرح أسئلة كثيرة عن المستوى الذي بلغه بناء الدولة العراقية. والتطور النوعي للهجمات التي أصبحت تطاول رموز النظام في أكثر المناطق تحصيناً، بعدما كانت عشوائية تضرب في الأسواق المكتظة ودور العبادة. ولا بد أيضاً من التساؤل عن القوات المسلحة، بكل فروعها، وعن السياسيين، ومدى الانتماء الوطني لكل من يشارك في الحكم. أثبتت مسيرة بناء الدولة في العراق أن الانتماء الوطني كان بالإكراه في عهد صدام حسين، وما أن أتيحت الفرصة للمذاهب والطوائف والأعراق (أصبح اسمها كيانات) حتى تشظت البلاد. والآن تحاول لملمة شتاتها في سلطة لا يجبرها على التماسك فيها سوى محافظة كل منها على حصته والإشراف الأميركي على بنائها، وشرعية شعبية مكرسة في دستور وقانون انتخابات يفصلان تقاسم الحصص. يأخذ سياسيون كثيرون على المالكي أنه أعاد بعثيين إلى الجيش والشرطة، وأسند إليهم مناصب «حساسة»، وبات اختراق هذه المؤسسة من المسلمات، وأقيل عدد من الضباط بتهمة التقصير أو الإهمال أو التواطؤ. والواقع أن الحملات التي شنتها القوات المسلحة في البصرة وغيرها، وتحول عشائر سنية من التحالف مع «القاعدة» إلى مساندة الحكومة في حربها (بتوجيه أميركي وإغرائها بالمشاركة في السلطة)، كل ذلك أظهر المالكي رجلاً قوياً عابراً للحواجز الطائفية، ما أثار حفيظة كثيرين ومخاوفهم من بقائه في منصبه، فشنوا عليه حملة، بعضها صحيح وبعضها بعيد عن الواقع. وكلما اقتربت الانتخابات كلما اشتدت الحملة عليه. الأحزاب السنية ترى فيه خطراً عليها، والأحزاب الشيعية تراه يأخذ دورها، على رغم ضآلة حجم حزبه بالنسبة إلى «المجلس الأعلى» وتيار الصدر. والأكراد يرون في تمسكه بالمركزية خطراً على مشروعهم الاستقلالي الذي أنجزوا معظمه. المشكلة في العراق تلخص واقع معظم الدول في الشرق الأوسط. وما الهجمات التي يتعرض لها العراق سوى تجسيد لواقع «الهويات القاتلة» (أمين المعلوف) من المحيط إلى الخليج.