لعل المهمة الأصعب التي يواجهها كل مغني جاز مع فرقته في باريس، هي الاضطرار إلى العزف فوق مسرح صغير جداً في قاعة صغيرة تزدحم بالحضور من دون أن يستطيع الجلوس في شكل مريح يسمح بالتمتع الكامل بما يدور فوق الخشبة. وتتميز كل هذه الصالات بالعيب ذاته، وهو محاولة أصحابها الاستفادة من كل سنتيمتر مربع فيها، الشيء الذي يمنع المتفرج من الحركة خوفاً من مضايقة جاره، إضافة إلى الحرارة في بعض الحالات أو إلى عكس ذلك بسبب تكييف الهواء القوي جداً. فكل هذه الظروف تحد من متعة المشاهد وترفع من مستوى التحدي بالنسبة إلى فناني الجاز. وسط هذا الجو العام يعتبر المغني الفرنسي تييري بيالا من الفنانين الموسيقيين النادرين في دنيا لون الجاز، فهو يتخيل كل قطعة موسيقية وكأنها عبارة عن فيلم سينمائي يتميز ببداية وحبكة ونهاية، ثم يضع فوقها الكلمات التي تأتي بمثابة الحوار السينمائي وينظر إلى الموسيقيين والمغنِّين على أنهم الممثلين الذين سوف يؤدون الأدوار المكتوبة كلها. واستناداً إلى هذا النمط، يكتب بيالا أغنياته بإيحاء في كثير من الأحيان من حياته الشخصية ومن المواقف اليومية التي يشهدها أو يشارك فيها. ولا يتخصص بيالا في ترديد الأغنيات التي هي من تأليفه فقط، فهو مثلاً من اشد المعجبين بالفنان كيني ويلر الذي غنى مجموعة من أحلى ألحان الجاز طوال النصف الثاني من القرن العشرين. وبالتالي تتضمن كل سهرة يحييها بيالا عدة أغنيات لويلر بعد إعادة توزيعها الموسيقي حتى تأتي في النهاية حاملة لهوية بيالا وفرقته دون المساس بالروح الأصلية للمقطوعة بطبيعة الحال، ولكن كنوع من التكريم للفنان الأصلي عبر ترديد الكلمات التي ألفها في حينه. وبين مهارات بيالا والتي صنعت شهرته منذ ما يقرب من العشر سنوات، قدرته على تقليد أصوات الآلات الموسيقية بفمه، ما يجعله قادراً على ترديد أغنية كاملة بموسيقاها وحده فوق المسرح ومن دون اللجوء إلى فرقة موسيقية تصطحبه، ولكنه يكتفي بممارسة هذه الموهبة خلال ربع ساعة مثلاً، لدى افتتاح كل حفلة موسيقية يشارك فيها. ثم يستمر في إحياء السهرة في صحبة فرقة موسيقية تعد من أفضل ما هو متوفر في باريس، وتتشكل من الفنانين برونو أنجليني وسيلفان بوف وماورو غارغانو. وأضاف بيالا حديثاً إلى فرقته الموسيقية آلة الباتري التي كان استغنى عنها حتى الآن، وهو اتفق مع أحد عمالقة العزف على هذه الآلة، الياباني إيتشيرو أونويه كي ينضم إلى المجموعة، محولاً الثلاثي إلى رباعي يديره هو شخصياً مثل المايسترو. وتتميز أغنيات تييري بيالا عموماً، بالنبرات الحالمة الناعمة، وخصوصاً في مقطعها الافتتاحي قبل أن تنقلب إلى مقطوعات قوية صاخبة بإيحاء واضح من الموسيقى الأميركية اللاتينية أو العربية أو البلوز. وهو سيحيي مجموعة من السهرات الموسيقية الغنائية في أفضل مسارح الجاز في باريس مثل «سانسايد» و «لو بيزيه ساليه» و «سانست»، طوال الخريف الحالي وفي الوقت ذاته تظهر النسخة الجديدة من أسطوانته الشهيرة الناجحة «نيو إيدج».