ولد الشيخ رشيد رضا عام 1865 في بلدة القلمون قرب طرابلس الشام ومات عام 1935 في مصر. وتميزت الفترة التي عاش فيها بظاهرة بارزة هي انحلال المجتمع التقليدي وغرق العالم العربي في صعوبات التفتيش عن صيغ جديدة لتركيب اجتماعي يؤمن استقلالية الذات العربية من جهة وانتماءها الخلاق لركب الحضارة الإنسانية الحديثة من جهة ثانية. نشأ الشيخ رشيد رضا في جو الشعور بالخطر على الوجود والتراث. وقد ألحقه صدقه في الشعور هذا بركب المصلحين أمثال جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده صاحب الصوت المدوي في الإصلاح الديني والاجتماعي والثقافي في سبيل التجدد الضروري للمقاومة والبقاء. فكان الشيخ رشيد ثالث ثلاثة في محاولة بناء الذات. لقد كانت هجرة الشيخ رشيد رضا من طرابلس الشام عام 1898 إلى مصر رمز عزيمته الجبارة في التصدي للدور الكبير الذي التزم به طيلة حياته. إذ لم يكد يستقر في القاهرة حتى أسس «المنار» المجلة المنقطعة النظير في سعة الرواج وبعد الأثر واستقطاب أهل العلم والرأي على حوار مستمر ومتجدد وصادق في مصارحة النفس ونقد الذات وإنارة الطريق. وكان الشيخ رشيد رضا، خارج «مناره»، العربي المسلم ذا شخصية فذة وأثر مُشع حيثما وُجد. كان القطب في المؤتمرات والندوات والحلقات الفكرية المنصبة على هموم العقل والروح، والسياسة المركزة على طلب الحرية والاستقلال والإصلاح. كان في القاهرة وفي اسطنبول وفي دمشق وفي الحجاز والهند وأوروبا داعية التجدد الروحي والسياسي وكان الرائد زارع البذور الجيدة. ورحلات الشيخ رشيد رضا هي جزء أساسي من سيرة حياته وهو الذي لم يكتب إلا جزءاً يسيراً من سيرته الذاتية. والرحلات هي أحد منابع المعرفة والتجربة الأساسية ولا عوض عنها في أكثر الأحوال، أقبلَ عليها الشيخ رشيد رضا بذهنية من يريد العيش الحي والمباشر للأحداث والاستفادة والتأثير في مجرى الأمور، والاستمتاع بدوره في تكييف الأوضاع وفقاً لمثله ومقاييسه. والرحلة مع الشيخ رشيد رضا هي على التأكيد من أرقى ما يمكن القارئ العربي أن يقوم به من أجل التعرف إلى ماضيه القريب. وهاجر صاحب «المنار» من الديار السورية إلى الديار المصرية عام 1898 عقب انتهائه من طلب العلم في طرابلس الشام لأجل القيام بعمل إصلاحي للإسلام والشرق، لا مجال له في بلد إسلامي عربي غير مصر. وبالفعل صادرت الحكومة السورية العدد الثاني من «المنار» بعد توزيعه، مقالة في عنوانها «القول الفصل في سعادة الأمة»، ثم صدرت إرادة السلطان عبدالحميد بمنع توزيع «المنار» تلا ذلك اضطهاد عائلة الشيخ رشيد رضا مما حرمه من زيارة وطنه سورية إلى أن أُعلن الدستور عام 1909 فزاره والناس يحتفلون ويحتفون بمن يعود من المنفيين والمهاجرين ويهللون لجمعية الاتحاد والترقي ويكرمون أعضاءها. إلا أن الأمر لم يطل كثيراً حتى ظهر الاستبداد والعصبية التركية في هذه الجمعية التي أطاحت بالحرية والدستور في فترة قصيرة وهذا ما حدا بالشيخ رشيد إلى مغادرة البلاد مرةً ثانية وهو الذي كان يحذر ويبدي مخاوفه من الاتكال على الجمعية وترك العناية بالعلم والاتحاد. وبقي خارج البلاد إلى أن انتهت الحرب العالمية الأولى باحتلال جيش الثورة العربية مع جيوش الحلفاء البلاد السورية. وبعد مرور بضعة أشهر على استقرار الاحتلال بدأت رحلة الشيخ رشيد رضا الثانية إلى سورية بعد تعهد خطي بعدم القيام بأي نشاط سياسي عن طرابلس حيث نشأ وترعرع يقول: «ما أحزنني من سوء حال بلاد سورية الاجتماعية والأدبية شيء كما أحزنني حال طرابلس والقلمون فقد كانت طرابلس خير المدن السورية في العلوم الشرعية والأدبية أما الآن فقد أُصيبت بالعقم من العلماء والفضلاء والزعماء». أما مسلمو بيروت فقد أصابهم في سني الحرب ما أصاب سائر الطوائف في جميع البلاد من تأثير مفاسدها ولكن حسُنت حالهم الاقتصادية فسبقوا غيرهم بمراحل وهم وإن كانوا مع إخوانهم في الوطن فرسي رهان في البراعة و التجارة فقد امتازوا على النصارى واليهود في زمن الحرب بكون نقودهم في صناديقهم وجلَ نقود أؤلئك في المصارف الاوروبية التي انقطعت الاتصالات بينها وبين البلاد العثمانية وبكونهم أجرأ على المجازفة فاتسع عملهم وعظُم ربحهم واشتروا أملاكاً عظيمة في بيروت وسائر المناطق. كانت بيروت في السنين الماضية دون دمشقوطرابلس في العناية بالعلوم العربية من شرعية وأدبية وإنما برز فيها أفراد فاقوا غيرهم كالشيخ محمد الحوت الذي فاق علماء سورية المتأخرين بالعناية في علم الحديث، والشيخ أحمد البربير في اللغة والأدب. ومن فقهائها الشيخ عبدالباسط الفاخوري المفتي والشيخ يوسف الأسير والشيخ إبراهيم الأحدب وهذا طرابلسي المولد والنشأة واختار الإقامة في بيروت. أما الحال الاجتماعية فقد تجدد فيها للمسلمين ثلاثة أمور ذات شأن كبير أحدها في ترقي النساء المدني والثاني الاستعداد للاتفاق مع النصارى والاتحاد الوطني معهم والثالث الميل إلى مجاراة مَن حولهم في التعليم والتربية المُلّية. ترقي النساء كانت المسلمات في بيروت أشد محافظةً على التقاليد من أمثالهن في سائر المدن السورية فلم تؤثر فيهن عوامل التفرنج الذي غلب على نساء النصارى لا النافع الصالح منها ولا الضار المفسد ولا عوامل التتريك الذي سرى إلى مسلمات دمشق، فكن أشد مسلمات سورية جموداً وكان رجالهن راضين بذلك، ثم رغبوا في تعليم البنات فأنشأوا لهن مدارس إبتدائية وأنشأت الحكومة العثمانية مدرسة للبنات في بيروت كان جميع تلميذاتها من المسلمات لأن النصارى لا يرغبون إلا في مدارس الإفرنج. ثم وُجد في بعض شبان المسلمين الذين تعلموا في المدارس الأوروبية والأميركية وأثر فيهم التفرنج، ميلٌ إلى فرنجة النساء، كان الرأي الإسلامي العام يقاومهم فيه وخاصةً الشيخ مصطفى نجا مفتي بيروت. ويتابع الشيخ رشيد رضا وصفه الأحوال الاجتماعية لأهل بيروت فيقول: «لا شك في أن عاداتنا وتقاليدنا القومية في النساء والرجال منها ما هو حسنٌ وهو بقايا آداب الشرع وإصلاح الدين ومنها ما هو قبيح ضار يجب تغييره بالتدريج، وفي أنّ ما يراد من التغيير والتجديد في الأمة منه ما هو حسن نافع لا يمكن للأمة الإسلامية أن تجاري سائر الأمم في سعة العيش والعزة والاستقلال من دونه، ومنه ما هو قبيح ضار مفسد لأمري الدين والدنيا جميعاً. ومن سنن الاجتماع المطردة في البشر أن الإفراط في الأمور المتقابلة تظهر به مزية الوسط المعتدل بينهما، والذي رأيته أن خط بيروت في المسألة النسائية كان أقرب في هذا التطور إلى الاعتدال. في كل طبقة من المحافظين والمتفرنجين والمتوسطين إفراطٌ وتفريط واعتدال، فغُلاة الاتحاديين أمرهم تفريط إذ كانوا يرون التعجيل بإبطال جميع العقائد والعبادات والعادات وتكوين الأمة تكويناً جديداً في كل شيء. ولكن، فيهم المعتدلون ومنهم عزمي بك الذي كان والياً على بيروت في زمن الحرب وقد رأى فيه الناس الحزم والعزم والعدل والدقة في النظام. وجّه عزمي بك عنايته في بيروت إلى ترقية المسلمات في الحضارة العصرية بالتدريج وتعويدهن حضور مجامع الرجال العلمية والأدبية وسماع ما يلقون فيها من الخُطب المفيدة والشعر العصري وإسماعهن ما تجود به قرائح المتعلمات منهن، ومشاركتهن لهن في الأمور الاجتماعية. ولولا مساعدة أحمد مختار بيهم لما نجح عزمي بك في مسعاه. فاستعان كلٌ منهما بنفوذ الآخر على عمل يريانه نافعاً للمسلمين بل لا بد منه في حياتهم المدنية العصرية، بل كانا يريان أن نساء المسلمين لا بد أن يتركن الحجاب ويجارين غيرهن من نساء المُلل في الحضارة العصرية وإن الخير لنا أن نبني ذلك على أساس متين، أي جامع بين مصلحة الدنيا وصلاح الدين، وإلا فعلَ التيار العصري فعله فينا بغير اختيار منا فكان إثمه أكبر من نفعه. أنشأ الزعيمان نادياً للنساء في عام 1917 وألفا له جمعية من المتعلمات باسم (جمعية الأمور الخيرية للنساء المسلمات) ثم أسست الجمعية مدرسة لتعليم البنات، وكان النادي يعقد اجتماعات نسائية يحضرها النساء والمهتمون بهذا العمل من الأدباء والأطباء ويلقون فيها الخطب والدروس، ويسمعون من أعضاء النادي ما يلقينه فيه ويتحدثون معهن في المسائل الأدبية والاقتصادية والصحية وتدبير المنزل والتربية. وإنما يكنّ مع الرجال سادلات على وجوههن النقاب الإسلامبولي الأسود لا سافرات، ويجلسن في جانب والرجال في جانب، فهن قد سبقن في بدايتهن نساء مصر الى هذه المحافل والمجامع التي كان يتمناها قاسم أمين وإخوانه من زهاء ربع قرن مع مبالغتهن في الحجاب وكثافة النقاب حتى أن بعض الأوانس من أعضائه حضَرن حفلة ذكرى المعلم بطرس البستاني في الكلية السورية في بيروت وألقت فيها عنبرة سلام وعادلة بيهم كلمات في المناسبة... الاتفاق مع النصارى الأمر الثاني في تجدد الحالة الاجتماعية كان الاستعداد للاتفاق مع النصارى والاتحاد الوطني معهم وهذا الأمر حدث نتيجة تطورات عدة نبهت العرب كغيرهم الى المحافظة على جنسيتهم وكان السوريون أسبق العرب إلى التنبه والبحث في ذلك من حيث أن لهم وطناً خاصاً له حدود ومصالح خاصة قلما تشاركهم فيها الأقطار العربية الأخرى، وأهله مؤلفون من أصحاب ملل ومذاهب يرجع أكثرها إلى فريقين محمديين ومسيحيين، بحيث يتوقف عمران البلاد وارتقاؤها على تعاون الفريقين وإن كان أكثر مجموع الأهالي من المحمديين. التطور الأول كان الدستور الذي علق الآمال بوطنية جديدة عثمانية تقضي على دسائس التفرقة في المصالح الوطنية بين الملل والنحل، ولكن لم تلبث هذه الآمال أن خابت فكانت خيبتها بعامل أقوى وهو اضطهاد الاتحاديين العربَ واجتهادهم في صرف قوى الدولة إلى الجامعة التركية أو الطورانية وإكراه سائر الشعوب العثمانية على الاندغام فيها بمحو لغتهم وجميع مميزاتهم القومية والوطنية ولا سيما السوريين والعراقيين من العرب، أما التطور الثاني فكان حرب البلقان التي انكسرت فيها الدولة انكساراً حرك المطامع الأوروبية المستعدة للوثوب على البلاد العربية لاستعمارها وعلى أثر ذلك تألف حزب اللامركزية في مصر والجمعية الإصلاحية في بيروت من المسلمين والنصارى، وباتفاق الحزبين مع بعض الشبان السوريين الذين يدرسون في أوروبا تكوّن المؤتمر السوري وجعلت رئاسة إدارته لحزب اللامركزية لأنه أقوى الأحزاب وأعَمها. وأما الحرب فقد كانت بويلاتها ومصائبها محركاً إنسانياً وطنياً للتعاطف والتراحم. أما التطور الأخير وهو الاحتلال فقد كان يجب ان يكون، بعد تلك التطورات الممهدة أو المؤسسة، وهو المتمم البناء لكنه كان هادماً للأساس والقواعد وراجعاً بهؤلاء السوريين المساكين إلى شر مما كانوا عليه قبل تلك التطورات الدافعة كل فريق إلى السعي للاتفاق مع الآخر وتكوين جامعة وطنية، وقد كان كل فريق مؤاخذاً في هذا اللون الذي كان مظهراً لفَقْد التربية الوطنية والقومية وتغليب التعصب الديني على كل ما سواه حتى كأنه قد صار غريزة راسخة لا تزول إلا بجهاد طويل ينقرض فيه جيل ويتجدد جيل. وقد ساعد الاحتلال على ترسيخ هذه الغريزة خدمةً لمصالحه إلا أن الاستعداد للاتفاق لا يزال قوياً ولا يحتاج إلا إلى نهضة بسيطة لإنجاحه. التربية والتعليم أما الحالة الثالثة فهي التربية المُلّية والتعليم العصري فلقد نام المسلمون نومةً اجتماعية أطول من نوم أهل الكهف وأثقل، ولما بُعثوا وجدوا ما يعرفون من سير البشر قد تبدل فصار على غير ما يعهدون، رأوا الغربيين قد سادوا العالم وتولوا إدارة شؤونه في بلادهم وبلاد غيرهم، فحاروا في أمرهم، لماذا لم يُجارِ المسلمون الغربيين في أساليب التربية المُلّية والتعليم المدني ومدارسهم بين أيديهم في دياره ولا سيما بيروت منها؟ فأعظم المدارس التي أسسها الإفرنج فيها الكلية السورية الإنجيلية والكلية اليسوعية، فلماذا لم يقتدوا بهم بتأسيس مدرسة قرآنية أو مدرسة محمدية؟ على أن سائر المدارس التي أسسها الإفرنج وتلاميذهم من النصارى الوطنيين دينية التربية ومنسوبة إلى البطاركة والقديسين من رجال دينهم، ويا ليت التربية الدينية فيها كانت مسيحية خالصة من شوائب الأهواء السياسية. كلا! إن كل شعب من شعوب الإفرنج قد بث في مدارسه التي أنشأها في الشرق دعوة سياسية نفخ فيها من روح الدين والمذهب فكان ذلك أكبر أسباب الشقاق الديني في سورية وقد كان هذا خفياً عن الدولة العثمانية الجاهلة المتساهلة وعن أكثر الناس ولكن صار معروفاً للعوام كالخواص، إذ ظهر تأثيره بما تجدد من الفرقة والشقاق، بعد تلك المسائل التي مهدت للاتفاق كما ذكرنا في الحالة الثانية. علِم مسلمو بيروت من ضرر مدارس الإفرنج فوق ما كانوا يعلمون وقد حملها زوال الحكم العثماني من البلاد على التشدد في إكراه مَن يتعلم فيها من أولاد المسلمين على تلقي دروس الديانة النصرانية وحضور وعظها وصلاتها. عندها قام الشيخ رشيد رضا بإلقاء عدة خطب دعا فيها إلى تأسيس مدرسة كلية إسلامية كما عرض على رئيس بلدية بيروت عمر الداعوق أن يدعو كبار الأغنياء الذين يُرجى منهم الخير إلى داره لأجل دعوتهم إلى الاكتتاب لهذا العمل. وحصل الاجتماع والاكتتاب إلا إن المبالغ التي جُمعت لم تكن تليق بهذا المشروع الكبير ما جعل الشيخ رشيد يلقي خطاباً شديد اللهجة فعل فعله فتضاعف المبلغ. ثم تألفت لجنة من كبار الوجهاء لمتابعة الاكتتاب للمشروع ضمت عمر الداعوق وأبو علي سليم علي سلام وأحمد مختار بيهم ومحمد الفاخوري رشيد اللاذقي ورشيد رضا. وتم شراء قطعة أرض بجوار حرش بيروت إلا أن اللجنة اتفقت على أن مشروع كهذا لن يُكتب له النجاح إلا إذا عُهِد به إلى جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية فجُدد نظام الجمعية ونُظمت جلساتها التي كانت معطلة. واستكبر المسيحيون المشروع وكتبوا في جرائدهم: «إننا نريد لوطننا السوري مدارس وطنية، لا مدارس دينية، فالدين هو الذي فرق كلمتنا، وأغرى العداوة والبغضاء بيننا». فرد عليهم الشيخ رشيد رضا في جريدة «الحقيقة» بأن المدارس الدينية التي فرقت وفعلت ما فعلت هي مدارس مسيحية لا إسلامية ولا وطنية ودعاهم قائلاً: «فإذا رضيتم بتركها واستبدال مدارس وطنية بها فإننا نضع أيدينا في أيديكم وأموالنا مع أموالكم وأولادنا مع أولادكم ولكننا نقول إن الدين لم يكن هو المفرق والمغري بالعداوة بأصوله وتعاليمه بل بسوء استعمال السياسة الأجنبية له وإننا بالتربية الوطنية يمكننا أن نجعله من أكبر أسباب الاتفاق والتعاون، وفي نصوص القرآن والإنجيل، ما يُهدي إلى سلوك هذه السبيل، وهي التي سلكها فقيد الوطن المعلم بطرس البستاني الذي اتفق المسلمون مع المسيحيين على احترامه والاحتفال في هذا العام بذكرى مرور مئة سنة من تاريخه. * كاتب لبناني