في يوم واحد، «انتصر» الفلسطينيون، على ما أجمعوا وأجمعت الصحف ووسائل الإعلام، فصادق مجلس الأممالمتحدة لحقوق الإنسان بجنيف على تقرير القاضي غولدستون، رئيس «مهمة الأمم لتقصي الحقائق عن حرب غزة»، ومهد الطريق الى رفع التقرير الى مجلس الأمن. وفي اليوم إياه، اضطرت مصر الى إرجاء توقيع الفريقين الفلسطينيين الرئيسيين المتقاسمين «السلطة الفلسطينية» في الضفة الغربيةوغزة وثيقة مصالحة «تاريخية» أعدتها الجارة العربية طوال أشهر طويلة ترقى أوائلها الى اعوام. وعزا البيان المصري الإرجاء الى «تداعيات تقرير غولدستون»، أي الى الخلاف الذي انتهى الى «الانتصار» المفترض. وغداة يومين على «الانتصار» والانقسام، في 18 تشرين الأول (اوكتوبر)، ندد مصدر مصري ب «التسويف والمماطلة وعدم قدرة الحركة (حماس) على الحضور الى القاهرة في الموعد المحدد بدعوى موقف السلطة الفلسطينية من تقرير غولدستون...». وخرج «مصدر» فلسطيني حمساوي عن ذريعة التقرير الأممي، والتلويح التحريضي بالذريعة، الى إثبات مسألتين جوهريتين اساساً للخلاف هما إغفال وثيقة المصالحة المصرية (وهي مصرية – فلسطينية على قول المصريين و «فتح») النص على «حق المقاومة وضمان إنهاء الحصار الظالم على غزة»، أولاً، وضمان «تفعيل الاتفاق (و) تشكيل القيادة الموقتة التي تمثل المرجعية العليا (...) في كل قرار سياسي وخصوصاً في المفاوضات مع إسرائيل»، ثانياً (صحف 19 تشرين الأول). وعلى هذا، فالانتصار في «حرب» تقرير غولدستون التي شنتها «حماس» وسورية وقطر على السلطة الفلسطينية و «فتح» ومصر أدى الى «هزيمة» هذه هزيمة مزدوجة، وإلى «انتصار» تلك انتصاراً مزدوجاً. فحمل حلفُ الأولى حلف الثانية على الرجوع في موقفه الأول، أي إرجائه مناقشة تقرير القاضي الجنوب افريقي في مجلس حقوق الإنسان الى الدورة القادمة، وألزمه طلب مناقشة التقرير من غير إبطاء. ولم يشفع إقرار المناقشة، وانتهاؤها الى الاقتراع على التقرير إيجاباً (وبعض المقترعين بالامتناع سوغوا اقتراعهم بمساندة محمود عباس وسياسته)، للسلطة الفلسطينية، ولم يقوها، ولم يضعف حجج مناوئيها ولا كسر شوكة المناوأة والتهمة. وردت «حماس» السلطة وأنصارها على أعقابهم، وأكرهتهم على تجديد طلب المناقشة فوراً، وعلى التعبئة الديبلوماسية في سبيل إقرار التقرير وإحالته على مجلس الأمن، من غير لقاء أو مقابل، وهو إقرار المصالحة ووثيقتها القاهرية. ولم يحل هذا، وهو كان متوقعاً وثابتاً، بين قيادات منظمة التحرير والسلطة و «فتح» وبين خوض حرب التقرير الأممي من غير هوادة، على نحو ما لم يحل بينها وبين الابتهاج ب «انتصارها»، والترحيب به، وحمله على انتصار «القضية الفلسطينية وعدالتها (...) وحقوق شعبنا الفلسطيني الثابتة»، على قول أحد الناطقين الرسميين. ولم يذهب اسماعيل هنية، «صاحب» حرب غزة على الدولة العبرية والسلطة الفلسطينية و «الأميركيين» معاً، مذهباً آخر. وأجمع هنية وأحد إخوته في «حماس»، طاهر النونو، على شكر «الدول المصوتة على التقرير». وهي، إلى روسيا والصين وكوبا وفنزويلا، أعلام حقوق الإنسان في غروزني وأوروماتشي وثويداد دي سانتياغو، «أشقاء» الجامعة العربية والاتحاد الافريقي والمؤتمر الإسلامي، على ما يتوقع وينبغي. وتمسكت مصر، متصدرة الجامعة العربية والساعية الأولى في مصالحة فصائل الفلسطينيين، بإجراء التصويت فوراً ورفض تأجيله... ساعتين، على ما اقترحت فرنسا. وقد يبدو تشابك السياسات والمواقف «بيزنطياً»، كناية عن عبث بعضهم واستماتة بعض آخر ومراوغة بعض ثالث. ولكن البيزنطية الفعلية لا تتستر على حقائق السياسات التي تتناول المسألة الفلسطينية، إذا كان جائزاً بعد حمل القضايا الفلسطينية الكثيرة والمتضاربة على «مسألة» مفردة. فالسلطة الفلسطينية، أي طاقم حكم «فتح» برام الله، ومعها مصر ومعظم دول الجامعة العربية والاتحاد الافريقي والمؤتمر الإسلامي وبعض الدول الغربية، سيقت سوقاً الى تحقيق غولدستون ولجنته. والحق ان السوق الثانوي والفرعي هذا ترتب على سوق سابق، مأساوي وأصلي، الى حرب الأيام ال22 في غزة. فتعمدت «حماس»، ووراءها «الجهاد»، يومها استدراج القوات الإسرائيلية الى حرب غير متكافئة بين جيش نظامي شاكي السلاح والعتاد وبين حفاة يقاتلون بالمقلاع، على قول الصحافي الألماني جوزيف يوف. وهذه الحرب لا يمكن إلا ان تكون «ظالمة» ووحشية». ولم تتهيب «حماس» ظلمها ولا وحشيتها حين بادرت الى الاستدراج إليها، وألزمت العدو خوضها على نحو ما يعرف العدو خوض هذا النوع من الحروب. وعلى نحو ما لا تعرف القوات الإسرائيلية خوض الحروب على نحو آخر، تجهل «حماس» خوض الحرب النظامية. فهي، «حماس»، قاستها على نتائجها السياسية المرتجاة، أولاً.. والنتائج السياسية المرجوة هي إحراج منظمة التحرير، وإظهارها مظهر المتواطئة على «شعبها»، وتثبيت شق الفلسطينيين صفين وشعبين: واحداً فتحاوياً متخاذلاً وأميركياً وآخر حمساوياً مقاتلاً و «إسلامياً»، الى إحراج الصف العربي المفاوض، وحليفه الدولي، وتوريطهما في مساندة السلطة الفلسطينية المتحفظة والعاجزة عن مد يد المساعدة، ثم في محاربة الحزب المقاتل والمقاوم. وهذه السياسة المعقدة والمكيافيلية وجه او جزء من استراتيجية إيرانية تسعى في دمج المسألة النووية الإيرانية في المسألة الفلسطينية وإخراج المسألتين مخرج كتلة متماسكة، على رغم الفرقين المذهبي والقومي، وفرق المصالح واختلافها. وأفلحت الاستراتيجية الإيرانية في إنشاء منظمات مسلحة أهلية في مستطاعها شن هجمات غير متكافئة على العدو القوي والمحتل، وإحاطة نفسها بحزام واق وأهلي متين صنعته من طريق رعاية جماعاتها، والوصاية ثم الاستيلاء عليها، وفكها من «دولها» الوطنية الهشة، واتخاذها إقليماً أو ولاية لها. ويفترض بلوغ الاستراتيجية الإيرانية غاياتها تجريد المسألة الفلسطينية، في فلسطين نفسها وفي الساحات والميادين العربية والإسلامية، من ملابساتها وأثقالها المحلية والوطنية، ومن أدوارها ودلالاتها المتضاربة والمتنازعة. ويتأتى هذا التجريد من طريق إناطة القتال في سبيل «فلسطين» بأحزاب وحركات وتيارات وإعلام وقفت نفسها ومناضليها وبرامجها على قتال إسرائيل والولايات المتحدة، في بلدانها وفي الميادين الإقليمية والدولية. ويحيل هذا الأحزاب والحركات... الى آلات صماء وضريرة في حرب مقاليدها بيد أجهزة خفية لا رقابة عليها ولا حسبة. وحين خاضت «حماس» حربها على سكان الجنوب الإسرائيليين كانت على يقين من ان مقاومة منظمة التحرير، وسلطة رام الله الذاتية، الحربَ هذه مستحيلة، وأن التحفظ عنها متعذر. وكان هذا يقين «حزب الله» الخميني حين شن عمليته، «الوعد الصادق»، على الدورية الإسرائيلية في 12 تموز (يوليو) 2006. وهذا محصلة تجريد المسألة الفلسطينية من ملابساتها السياسية والوطنية، وثمرة إناطتها، كلاً وجميعاً، بمرجع يحتكرها وهي على هذه الحال من التجريد. وعلى رغم فداحة الخسارة التي أوقعتها الحرب الإسرائيلية، وأداء قيادة «حماس» المعيب في أثناء العمليات، خرجت «حماس» «منتصرة»: فهي لم تستأصل، وهذا متعذر ويفترض كلفة إنسانية لا يسع دولة من دول المجتمع الدولي، ديموقراطية أو مستبدة، قبولها أو السكوت عنها، على ما لا يكف هنري كيسينجر (وهو من هو «واقعية»!) عن التذكير. وهي جرّت القوات الإسرائيلية الى ارتكاب ما لا يحتمل دوامه، ودوام النظر إليه بعين آلات التصوير الماثلة واليقظة. وقسرت العدو الساعي في الردع، أي في الحؤول دون تكرار الاستدراج، على انتهاك ضوابط الحرب وقيودها. فإذا «ربح» العدو الردع الذي يريده ويطلبه، وهو ربحه أو ربح معظمه على الجبهة اللبنانية قبل نيف و3 سنوات وعلى الجبهة الفلسطينية طوال الأشهر المنقضية من 2006، سدد ثمناً سياسياً وديبلوماسياً ومعنوياً مرتفعاً لقاء مربحه. وتقرير غولدستون هو بعض الثمن هذا. فالقوات النظامية المحاربة تقاتل من غير قناع يستر هيكليتها ومراتب الأمر والتنفيذ فيها أو يموه المسؤوليات. وهذا على خلاف قتال «قوات التمرد»، و «حماس» مثال تام لها وعنها. وغفلة القاضي ريتشارد غولدستون عن الفرق، ودهشته لاقتصار التنديد على القوات الإسرائيلية ولتبني «حماس» التقرير الذي يحسب القاضي اليهودي والصهيوني الميل (على ما قال هو نفسه) انه يدينها كذلك، تدعوان (الغفلة والدهشة) الى العجب. فلقاء شكوك تقرير لجنة التقصي في بعض أعمال «حماس» العسكرية، كسبت الحركة الفلسطينية «الإسلامية» عواطف «شعبية»، على قول رجب طيب أردوغان، ثمينة وجياشة. واستمالت حركات إسلامية عربية، إخوانية، كان تشيع «حزب الله» وسنده الإيراني يحملها على التحفظ. وفوق هذا، أثبتت «حماس»، وصفُ حلفائها معها، أن «المسألة» الفلسطينية في حلتها العروبية والإسلامية والإيرانية الغالبة ممتنعة من معالجة سياسية مركبة تحتسب الملابسات والخلافات الوطنية والإقليمية. فعسر تصدي السلطة الفلسطينيةبرام الله للمراوغة الحمساوية والردع الإسرائيلي معاً وفي آن، أوقع السلطة وحلفاءها في مأزق فعلي لم تخرجها مناقشة التقرير منه. والشرطان المتأخران، والسابقان والثابتان، أي الحق في شن حروب إرادية والإبقاء على قبضة «حماس» على غزة، قرينة على غور الاستعصاء وتعقيده. فما لم تتطرق المناقشة والخلاف الى تجريد المسألة الفلسطينية، وإناطتها ب «أحزابها» الموقوفة عليها، يكاد يستحيل على أطراف المسألة، الفلسطينيين قبل العرب، الخروج من الشقاق الإسلامي الإيراني والعروبي. وإحجام محمود عباس ومصر، في المرتبة الأولى، عن التمسك بإرجاء مناقشة تقرير غولدستون، وشرح الخطة التي تقتضي الإرجاء وتعوض «مكاسب» المناقشة الفورية، علناً، الإحجام هذا دل على التفوق الإيراني في خوض المعارك الخاسرة، وعلى ضعف فلسطيني وعربي وإسلامي اصيل عن المعالجة السياسية والإقرار بمشروعية ا لانقسام والمنازعة والكثرة الوطنية والمحلية. * كاتب لبناني.