لم تكن هي من سمّت معرضها، حتى أنها نسيت بالضبط الاسم الذي أطلق عليه، فلا معنى كبير للعنوان. ما تعرفه أن تلك اللوحات الأربعين التي كان من الممكن أن تبقى حبيسة صناديق كبيرة، لولا لحظة حياة دبت في الوعي. هذه اللوحات تنتمي إلى زمن واحد يحولها إلى «أرشيف» للذات، ولكن من دون أن يجعلها ميتة، بل أنها أكثر حياة مما كانت عليه يوم وضعت. فهناك طبقة وهمية حتمية أخرى تضاف فوق طبقاتها المنجزة حتى الآن، طبقة تصنعها روز الحسيني بحضورها القوي إلى جانب تلك اللوحات. فهي هنا الآن وقد اخرجت لوحاتها من الصناديق وخرجت هي إلى الحياة. ولهذا معنى كبير في حياة اللوحة، كل لوحة في المعرض الخاص بالتشكيلية اللبنانية الذي أقيم في «غاليري سلوى زيدان» في أبو ظبي لنحو شهر تقريباً. فلكل لوحة حيوات كثيرة، أو بالأحرى حيوات متراكمة، فلن يمكنك مقاومة الرغبة في قشر الطبقة الخارجية، لترى ما تحتها في عذريتها. شيء ما كبناء المدن بطبقات للإبقاء على كل نسخها، كما حلم بها مهندسو ما بعد هيروشيما، طبقات تعلو فوق بعضها، لا تمحو حتى الدمار والآلام، طبقات تصنع للماضي حياة، فللدمار حياة وللرماد أيضاً. فالحسيني التي رسمت كل لوحاتها الأربعين تقريباً بين عامي 2006 و2008، في فترة صراع أو ما بعده بقليل مع المرض الذي خرجت منه منتصرة، فعلت شيئاً من ذلك، صنعت لوحة بطبقات، لوحة لم تجمع فيها وتلصق كما هو «الكولاج»، والذي جربته سابقاً، لكنها بنت شيئاً أعمق من الكولاج نفسه، احتفظت بكل اللحظات، لم تمح شيئاً ولم تستقطع شيئاً، كل ما مر على اللوحة بقي في مكانه، كل ما فعلته أنها أضافت إليه طبقة أخرى للحظة أخرى، طبقة ليست لونية دائماً، فالطبقة قد تكون لوحة أخرى، وقد تكون غالباً من ورق الأرز، بهشاشته التي كانت تشبه تلك اللحظات غير «الأكيدة»، غير النهائية، وبقدرته على أن يكون شفافاً حتى لا يخفي بالكامل ما تحته، أو أنه يقدم على الأقل الوعد بكشف ما تحته. عندما كانت تعود روز للوحتها بعد حين، كانت تضيف إليها طبقة أخرى، ثم تحاول أن تربطها ضمناً بان تجمعها بلطخة ما تمر على الطبقتين معاً أو أكثر، أو تقص قليلاً من الطبقة الفوقية فقط لتكشف ما تحتها. فكل لوحة هي محاولة اختبار للاحتمالات، أي احتمالات الحياة التي تصبح بعدها احتمالات لوحة، فان كانت كل طبقة تحكي لحظة ما سواء كانت ألماً أم حزناً أم وحدة أم ومضة أمل أم رغبة اختفاء... الطبقات في اللوحة الواحدة هي محاولة مراكمة لكل هذه اللحظات، ومجموع التراكم في كل لوحة يصنع احتمالاً، فكأن روز في كل لوحة تحاول أن تختار واحدة من الاحتمالات التي مرت بها. فمرة هي خط يبدأ بألم ثم خوف ثم ضوء خفيف ثم تلاشي، لوحة أخرى قد تبدأ بضوء خفيف ثم خدر وبعده نبضات قلب قوية... انها احتمالات - أوقات وحدها روز تملك ذاكرتها، وتجعلنا نتخيل حياة كاملة، رواية كاملة، قد نصبح نحن أبطالها أو انه يمكننا أن نجعلها روايتنا ونضفي إليها طبقة أخرى منا. بهذا المعنى فان لوحات روز هي لوحات حية بقوة. لم تفتعل فيها ألواناً لا تملكها، ألوانها داكنة غالباً، لا تتخطى عالمها إلا قليلاً، فحتى الأحمر عندما يظهر فجأة لا يمكنه إلا أن يكون داكناً، إنه الأحمر الذي لا يمكنك تخيله إلا أنه تراكم لألوان داكنة، وهنا يظهر كم أن عالم «الداكن» كبيراً، تماماً كما هو عالم الألم واسعاً. ولكن حتى العالم الداكن الذي تدور فيه لوحات روز لا مسميات له، فهو مبهم بقوة، لا لون واضح فيه، لا يمكنك أن تسميه الأسود أو الرمادي حتى، انه شيء تراكمي، كما اللوحات نفسها، شيء ما يصعب تفكيكه، كما هو صعب تفكيك حياة ما، إبهام يذهب بعيداً بالمعنى الحقيقي للتجريد. فبقدر ما تبدو اللوحة بسيطة، أي بقدر ما يمكنك أن تحذر أنها ورقة أرز طويت في اليد ثم فلشت فصنع اللون فيها خطوطاً رقيقة بالغة الدقة كالشرايين العميقة، بقدر ما يبدو ذلك مبهماً مجرداً، لا يمكنك التقاطه بسهولة. أنه عالم التجريد ولكن بأفق جديدة. بأفق قد تبدو روائية إلى حد ما، لأن التقاط الورقة في الكف يؤرخ للحظة بحد ذاتها، قد تكون القبضة قوية أو خفيفة أو قد لا تكون سوى ملامسة لطرفها، كطرف رغبة أو طرف ألم. لوحات صغيرة لم تكن، في حينها سوى طريقة لمقاومة الألم، للاستمرار في الحياة، لوحات بحجم حركة اليد، فلا لوحات كبيرة، فذلك كان يتطلب طاقة لم تملكها حينها، الطاقة كانت الحياة نفسها، الرغبة في الحياة، في مقاومة الخوف والمرض. إنها لوحات تؤرخ لحياة، لوحات جعلت تجربة روز الحسيني في التجريد أعمق وصنعت لها هويتها الخاصة جداً. صنعت ذلك بداية بلا وعي لأفق اللوحة، ولكن هل هناك ما هو أكثر وعياً فينا من الألم نفسه ومن مقاومته. انها التجربة التي عجّلت الاختبار التجريدي الذي بدأته روز الحسيني منذ سنوات والذي ما زال بالطبع مفتوحاً، ولكنه كمن تعرف إلى طريقه أخيراً.