كيفن كارتر، صاحب لقطته الشهيرة في مجاعة أفريقيا الحائزة جائزة بوليتزر عام 1994. ويظهر فيها النسر متربِّصاً بطفلة متهالكة تزحف بخطى موت متثاقلة نحو معسكر توزيع الطعام الخاص بالأمم المتحدة. وسبق أن تناولت الصورة، وانتحار صاحبها بعد 3 أشهر من تسلّمه الجائزة بسبب الحضيض النفسي الذي وصل إليه مع أفكاره، وعدم قدرته على التصالح مع تأنيب ضميره والأسئلة تطارده عن مصير طفلة تركها ومضى. ولكن ما لم آتِ على ذكره كلمات الرجل قبل الرحيل، وجاء فيها: «تطاردني الذكريات الحية للقتل والجثث والغضب والألم. بالجلادين والقتلة والرجال المجانين المتسرِّعين إلى العنف، وهم في الغالب من الشرطة». وكما يقول الكاتب الأرجنتيني جوزي ناروسكي: «في الحرب لا يوجد جنود غير مصابين»، ولا حتى غير الجنود. فمن يشهد الحروب معطوب بجسده أو بروحه أو بالاثنين، فلا نعتقد مثلاً أن من يَعِشْ الجنون الوحشي بسورية سيعود سليماً وطبيعياً في مشاعره وذكرياته. ثم ماذا عمّن أطلق الحيوان بداخله حتى استوحش واستعر؟ كيف يملك أن يعيده إلى حظيرته ويسيطر عليه بعد اعتياده حفلات زار عاشها بطقوسها الشيطانية؟ فكما في حكاية الجد إلى حفيده: «بداخلي حيوانان يتعاركان، أحدهما مفترس والآخر مسالم، فأيهما يكسب المعركة يا جدّي؟ الذي أغذيه ليعيش ويقوى يا ولدي». وأي مكان أنسب من فوضى الحروب يعربد فيها الحيوان المفترس في الإنسان بعد أن يغذيه على رائحة الدم..! من يهرول للذبح في سورية والعراق واليمن وأية دولة تستعر فيها حيواناتها، هذا المتحمِّس لإراقة الدماء ليس كله حباً وسمعاً في الجهاد كما يروّج له، ولكن تعطشاً للتمرد والهياج ومعاشرة الانفلات والتحلل من العهود والقوانين، ناهيك عن المفخخّين. فلن تجد إنساناً يفكر ويعقل ويرضى بقتل نفسه وإن زينوا له إقدامه الجاهل. فهذا المضروب في مخه لو لم يتفجّر بحزام الموت لانتحر بغيره. والإجرام حقاً أن ينهي حياته ولا يملكها أصلاً، ويحصد معها حيوات أخرى. فكيف بمن يحرض على هذا الرعب؟ وكيف إذا فعل باسم المقدس؟ وقد يكون السؤال الأمثل: لِمَ هذا الغضب الذي تعرّى في سورية وغيرها؟ فلربما يُفهم غضب الشعب لمعاناته الأليمة من الظلم؟ ولكن بِمَ يُفسر غضب النظام بعد التنعّم بمزايا الكرسي طوال السنين؟ إلا أن يكون الإنسان عاطلاً بطبعه وفطرته، ولا أظن أن شخصيات كالأسد والمعلم والجعفري سوى أنها بهذا الافتراء والاستقواء الجائر ولو كانت تعمل في محل للحلاقة أو بيع المخلل. والغضب شرّ، والفرار منه أجدى من القدرة عليه بعد الوقوع فيه. فالغضب حالة تتصاعد وفي ظنك أن الأمور تحت حكمك، فإذا بك تحت حكمها. وكان أرسطو يقول: «إن الغضب هو المحرِّك للحمية، والمولِّد للشجاعة. ولكن تجب السيطرة عليه مثل الجندي يقوده رئيسه». فأجابه أحد الفلاسفة ببطلان رأيه. ذلك أن الغضب لو كان يمتثل للعقل ويقاد به، فهو ليس بغضب، لأن الغضب من تركيبته أنه يعصي العقل ولا يتبعه، فيكون للعقل كالجندي المنشق لا يطيع الإشارة، فإذا افترضنا أنه صار قابلاً لأوامر العقل ومعتدلاً بها، فيكون خارجاً عن تعريف الغضب ولا نسميه غضباً. ومن شأن الغضب الانجرار إلى نتائج لا يرتجى منها نفع. وهذه حرب سورية..! ولو كان في الغضب خير لكان من نصيب الحكماء. فمن أجمل ما يروى عن سقراط مع خادمه المذنب قوله له: «لو لم أكن غضبان لضربتك». فأحوج الناس إلى البعد عن الغضب، من كان أمر العقوبة في يده. ولأنه جرت عادة العرب أن المتسلِّط عليهم حتى في وظائفهم سريع في غضبه وحنقه، واعتبار المسائل المهنية وكأنها شخصية، فها نحن لا نسلم من النتائج المتفاقمة حد الاقتتال والانتقام، فكما أن الغضب إرادة، فالحلم وكبح الجماح إرادة وذكاء أيضاً. وعلى ما يبدو أن ذكاءنا محدود جداً في هذه الجزئية، فأي ذكي يصرّ أن يعب من ذكريات المشاحنات والخلافات، ويتدرج بها إلى القتل والسحل؟ وهذا كارتر لاحقته لعنة طفلة أهمل في عونها، فمن يسلم من لعنة حرب بشعة يتلطّخ بدمها؟ ولو بالتحريض.