عاثر الحظ، الحكم اليمني الذي حالَ انهماكه ب «هيبة الدولة» ونوع المخارج الممكنة والمستحيلة لإنقاذها، دون الاستعانة بفحوص «دي أن آي» لقياس صلات القرابة بين المعارضين الذين ما زال يعتبرهم «متخلفين»... أو بفحوص أخرى مخبرية لا تعتمد على وشايات المخبرين، للتحقق من تشابه عقول الذين يتحدون الرئيس. عاثر الحظ ذاك الحكم الذي لن يستطيع زحزحة اليمن السعيد عن خريطته الى جوار إسرائيل، للعب ورقة مقايضة أو «زواج» بين بقائه واستقرار الدولة العبرية التي كانت عشية الربيع العربي، أول أعداء «الممانعة»... وأُوحيَ لعرب الجمهوريات بأن الخبز يهون، والكرامة رفاهية، والحرية بطر، إزاء «ممانعة» مع عدو غاصب مغتصب، بطّاش خدّاع، ابتلع الأرض ويستعد للوثبة الأخيرة على جمهوريات العز الوفير. ولأن التاريخ العربي يدبّ مجدداً في عروق المنطقة، نتخلص من عقدة طرد الذكريات السيئة... وإن كان ذاك لا يبيح النفاق بتبديل القناعات والمبادئ، لحماية الظهر. في مرحلة تدويل حقوق الإنسان، يتذكر كثيرون ممن عاشوا الستينات والسبعينات من القرن العشرين كيف كانت الملكية تهمة، فباتت اليوم ملاذاً من جحيم الجمهوريات العامرة بالتعذيب والتنكيل، «حمايةً» للأوطان و «الوطنيين» من مشاريع الإمبريالية الخفية، وتربص الإسرائيليين. لا خبز ولا كرامة، فداء لجمهوريات «العزّة» المخضبة بدماء العرب... لم يأتِ بعد وقت حساب عدد شهداء الحرية، لكنه بالتأكيد لا يشي سوى بغزارة الدماء التي تسيل حماية لبقاء الجنرالات، قياساً الى عدد شهداء الحروب مع إسرائيل. بعد ملحمة الأنظمة «الوطنية» في الصراع «الأبدي» مع إسرائيل، كان لا بد من استثمار الترهيب بورقة البديل، وهو في حال الأصولية المتطرفة أو حتى المغالاة السلفية وإرهاب «القاعدة» لا يحجب إرهاباً في جمهوريات «العزة» التي اعتادت الإقامة في كل منزل، وكل عقل. يستوي في الحالين، التكفير والتخوين اللذان غذّيا تربة الانتفاضات على الأنظمة وكل أسلحتها، بما فيها ترهيب الفكر بخرافة المؤامرات... لتمديد وصاية أبدية على حقوق المواطن، وأنفاسه. في الربيع العربي، نماذج ما زالت حيّة من جنرالات ربطات العنق الذين استثمروا «عدالتهم» و «حكمتهم» بأموال عامة، انتقلت أرصدة خرافية في مصارف الغرب، كي ينصرفوا بهدوء الى إدارة معارك الأمة: مع الإسرائيليين ولو على «جبهة السلام» ومع الإرهاب المتسلل من فضاء المشبوهين، والإسلامي الزاهد إلا بالسلطة، واليساري البائس بحظوظه مع صعود «الإخوان»... ولو بعد حين. ومرة أخرى، يصح القول ان لا اليمن تونس، ولا سورية مصر ثانية، لكن الأهم ان الثورة التي أطاحت مبارك وبن علي لن يكتمل انتصارها إلا بالقضاء على كل أنواع التمييز، وقتل الثورة المضادة التي تتسلل في مصر تحت رياح الفتنة الطائفية... هي بالتأكيد أكبر خطر على عهد التغيير، إذ يشيع التباسات وشكوكاً، ليس أقلها قدرة الدولة على حماية ذاتها من الانهيار، ومنع التناحر على حقوق المسيحيين. لذلك، ليس مبالغة ربط مصير حركات التغيير في المنطقة بقدرة ثورة «25 يناير» على تجاوز امتحان التغلب على الفتنة، وهذه يمكن سريعاً أن تتحول عابرةً للحدود، كلما راهنت عليها جمهوريات القبضة الأمنية، سلاحاً للترهيب من البديل... فتنتصر مجدداً رايات «عزة» السلطة، ولا بأس إن سقط مئات الشهداء. سلطة تحصي الأنفاس و «المتآمرين»، الغرب براية حقوق الإنسان يراقب الباقي من الوقت... والوقت ينفد سريعاً في ليبيا واليمن. لا قدرة للغرب على احتواء تهاوي الأحجار والرؤوس دفعة واحدة، وأما حاجاته - خلافاً لما يظن بعضهم – فتتعدى مجرد ضمان مصالح إسرائيل واستقرارها، بين دول الجنرالات، كباراً وصغاراً.